تجربة عشتها بكل تفاصيلها الجميلة ونهايتها الحزينة، كم تمنيت أن تلوح الفرصة في الأفق لاستلام تيار إسلامي معتدل ومتنور الحكم، في دولة من الدول العربية، التي عانت من الاستلاب عقودًا من الزمن.
في بداية تسعينيات القرن الفائت، وعلى إثر استشعار الرئيس الجزائري الراحل، الشاذلي بن جديد، اقترابَ إحكام خيوط السيطرة من رقبته ونظام حكمه، من أباطرة العسكر (الحكام الحقيقيون)، وعلى رأسهم وزير الدفاع خالد نزّار، وبعد أن اشتد الصراع، وبات جليًا -أكثر من ذي قبل- أن الكفّة راحت ترجح أكثر فأكثر لجماعة خالد نزار وجنرالاته، خريجي أكاديمية تشرشل العسكرية، راح الشاذلي بن جديد يبحث عن طريقة؛ ليقلب المجن على رؤوس أصحابها، عندما أيقن أن المجموعة التي دفعت به إلى سدّة الحكم، بعد أن كان قائدًا مغمورًا للمنطقة الغربية (وهران وما حولها)، قررت أن تستبدله بآخر، وتجعل منه كبش فداء، وأضحية تُمسح بها السكاكين، وتعلق عليها أخطاء المرحلة السابقة، وفساد استشرى بالبلاد، حتى بلغت المديونية 26 مليار دولار، ولا سيّما أن الشارع الجزائري بدا أكثر جاهزية لتكرار انتفاضة 1987 العفوية، التي فجّرتها مجموعة من الأطفال، وعمت البلاد خلال 24 ساعة.
عود على بدءقرر الشاذلي بن جديد أن يتغدى بهم، قبل أن يحين موعد عشائهم به، ويقطع عليهم كل السبل لتشويه سمعته؛ علمًا أن الرئيس كان موضع تندر الجميع، اتخذ الرئيس مجموعة من القرارات الجريئة التي أبهرت الجمهور، وفاجأت خبراء السياسة.
من أهم تلك القرارات إطلاق سراح مجموعة كبيرة من المعتقلين السياسيين، ومنهم الإسلاميين، وفي مقدمتهم جماعة “بو يعلي” المعتقلون منذ أيام الرئيس الراحل هواري بو مدين. أما القرار الأهم، فهو إعلان حالة الديموقراطية والتعددية الحزبية، دون أي تمهيد، ولو على المستوى السياسي، فخلط هذا القرار جميع الأوراق.
تسابق الجميع إلى تأسيس الأحزاب بكل أنواعها وتوجهاتها، على سبيل المثال، اليسارية العمالية (لويزة حنون)، الإسلامية (عبد الله جاب الله، عبد الحفيظ نحناح، عباسي مدني، أحمد بن محمد) وأحزاب أخرى ذات بعد قومي، إضافة إلى حزب جبهة التحرير الوطني الحاكمة (عبد الحميد مهري)، وتكاثرت الأحزاب حتى فاقت 60 حزبًا.
ما يهمنا، هنا، هو ظاهرة الجبهة الإسلامية للإنقاذ (فيس)، وزعيمها السياسي عباسي مدني، ونائبه الزعيم الشاب علي بلحاج، الذين تداعوا فور صدور القرار، هم ومجموعات أخرى، ظهرت إلى النور بعد عقود من العمل السري، واجتمعوا في عاصمة الأوراس (باتنة)؛ ليعلنوا قيام جبهتهم، بعد أن انخرط فيها أغلب المفرج عنهم من جماعة “بو يعلي” ذات البعد الإسلامي.
لكن ما لفت انتباه المراقبين، كثرة الأحزاب الإسلامية، مقارنة مع مثيلاتها من التوجهات الأخرى. لم تكن من نقاط تقارب بينها، سوى اسم الإسلام، بعضها كان ينشد بناء دولة إسلامية معاصرة منفتحة، كحزب “الجزائر المسلمة المعاصرة” بزعامة الدكتور أحمد بن محمد.
أما تيار عبد الحفيظ نحناح، فكان أكثر قربًا من السلطة، وأكثر مهادنة، بينما الجبهة الإسلامية للإنقاذ، فكانت الأكثر تشددًا، حتى حدوث الشرخ الأكبر ضمن صفوفها، وظهور تيارين داخل الجبهة: الأول، تيار سياسي، يتزعمه عباس مدني، والثاني، تيار عسكري متشدد، يترأسه ظاهريًا علي بلحاج، أما من يتحكم بمقدراته وقراراته هم جماعة بو يعلي.
ظهر هذا التيار بعد إعلان الحكومة موعد إجراء انتخابات الإدارة المحلية (البلديات)، وإقدام الحكومة على تزوير الانتخابات قبل أن تبدأ، عبر تقسيم الدوائر الانتخابية، وما إلى ذلك من ألاعيب الانتخابات، إلا أن الجبهة الإسلامية للإنقاذ اكتسحت الجميع، وفازت بالانتخابات بنسبة 100 بالمئة، في جميع الدوائر الانتخابية على المستوى الوطني الجزائري، على الرغم من أنه لم يمض على تأسيس الجبهة سوى عام واحد فقط، ولم تكن قد وضعت -بعدُ- نظامًا داخليًا مكتوبًا، واستعاضت عنه بشعارات، تُحاكي الشارع أحيانًا، وتتحداه أحيانًا أخرى.
راحت حكومة مولود حمروش تختلق الذرائع؛ لتحبط نجاح الجبهة، فضيّقت عليها بالميزانية، وعطلت القرارات المفيدة للناس عبر آلية البيروقراطية المستشرية في العقل الوظيفي الحكومي.
اتبعت الجبهة سياسة خدمية جديدة تطوعية، اعتمادًا على كوادرها، وتطوع عدد هائل من الشباب الملتزم لتقديم الخدمات للجمهور، عبر تطبيق شعار “من المنتج للمستهلك”، أي: حذف نقطة الوصول من المنتج إلى المستهلك، وإلغاء الوسيط، وسارت الأمور بين شدٍ وجذب، فترة أشهر، لا يستهان بها، إلى أن جاءت تجربة الانتخابات البرلمانية.
كعادتها أقدمت الحكومة على اللعب بالنتائج قبل بدء الانتخابات، عبر آلية تقسيم الدوائر (تزوير مبطّن ومفضوح)، بينما كان النظام السابق للانتخابات، ينص على وجود نائب لكل 50 ألف صوت، وتعالت الأصوات الرافضة والمحتجّة، مطالبة بتعديل الدوائر الانتخابية، وتظاهر كثيرون وشجبوا واستنكروا، إلا أن عجلة الوقت سبقتهم، إلى أن جاء موعد الانتخابات.
قاطعت بعض الأحزاب الانتخابات، بينما خاض التيار الإسلامي الانتخابات بعد حملة انتخابية شديدة التركيز، انطلاقًا من الإحياء الشعبية التي كانت مركز ثقل في العاصمة الجزائرية (منطقة القبة ومنطقة القصبة)، وكانت النتيجة -بعد التزوير المفضوح- أن فازت الجبهة الإسلامي للإنقاذ بالأغلبية المطلقة بنسبة 51 بالمئة من الأصوات، تحت قبة البرلمان، بينما تقاسمت باقي الأحزاب المقاعد الأخرى، وجاءت جبهة التحرير الوطني (الحزب الحاكم) بالترتيب الثاني، من حيث عدد المقاعد في البرلمان.
هنا جاء مخاض جديد داخل الجبهة الإسلامية للإنقاذ، أفرز أصواتًا مختلفة داخل الجبهة، يمكن تحديدها بثلاثة اتجاهات:
– تيار وسطي، ينادي بقبول النتيجة، مع إبداء الاستياء والرفض للتزوير، ودخول المعترك السياسي تحت قبة البرلمان. والتفرغ للتحضير -بكثافة- للمرحلة المقبلة، وهي انتخابات الرئاسة.
– تيار رافض، لكنه سلمي، دعي لرفض النتيجة وأدواتها المخالفة للقانون بالطرق السلمية، والاعتصامات في الساحات العامة، حتى يستجاب لمطالبهم بإعادة الانتخابات، بعد تصحيح قانون المناطق الانتخابية.
– تيار متشدّد، دعى إلى رفض الانتخابات واللجوء للقوة ضد “الكفرة”.
رُجّح موقف التيار الثاني -بالنتيجة- بعد صراع داخلي خطِر، وضع الجبهة أمام استحقاق وجودها، مقابل استحقاق وطني مهم.
تم إصدار بيان بموقف الحركة، ونودي للاعتصام السلمي المفتوح في ساحة الشهداء بالعاصمة، والتحق بهذا الاعتصام المفتوح أعداد غفيرة، شل العاصمة الجزائرية سياسيًا، وراح الجميع يبحث عن حلول ووساطات؛ لتخفيف الهوّة والبون الشاسع بين الجبهة، والحكومة التي يترأسها مولود حمروش.
بعد أيام الغليان في الشارع السياسي، والتهاب المشاعر لدى الشعب الجزائري، والتجاذبات، اتبعت الحكومة الجزائرية (بدعم من جنرالات الجيش)، أسلوب التشبيح والاستعانة بالمرتزقة؛ للتحرش بالاعتصام، وتأزيم الحراك السياسي، وإعادته إلى المربع الأول، وإعطاء الفرصة للجناح العسكري باللجوء إلى القوة واستخدامها بعنف مفرط، وبذلك دخلت الجزائر نفق العنف المتبادل.
بعد سلسلة من العمليات العسكرية المتبادلة، التي شوهت سمعة الإسلاميين، ولا ننكر أن الجيش الجزائري ارتكب العديد من المجازر والاغتيالات؛ لوصم التيار الإسلامي المتشدد بالقتلة والإرهابيين (امتثالًا لنصائح فريق الخبراء السوري الذي أرسله حافظ الأسد إلى الجزائر)، ولا ننكر أخطاء فئات متشددة، صعدت الجبال، وأعلنت الجهاد المقدس.
بذلك تكون الحركة الإسلامية، والشعب الجزائري، قد أهدرا فرصة تاريخية لن تتكرر.
كل ما كُتب هنا عشته وشاهدته وسمعته من نبض الناس، وفي ذلك الوقت، تعمدت الحياد في نقل ذلك قدر المستطاع.