يعيش الشعب السوري محنة حقيقية، تجلياتها متشعبة: مئات آلاف القتلى والمعتقلين، ملايين النازحين داخليًا، ملايين اللاجئين إلى الخارج، ملايين البيوت المهدّمة، عشرات ألوف المعوّقين، تصدّع مجتمعي، طغيان العسكرة والتطرف والإرهاب، تعثر مفاوضات جينيف 3.
وإزاء كل ذلك، يبدو من الضروري أن يعمل المثقف النقدي على إعادة صياغة وترتيب أفكـاره، بما يمكّنه من فهم وتشخيص هذا الواقع، ومن ثم الانخراط في تغييره نحو اتجاه تحقيق مطامح الشعب السوري في الحرية والكرامة، من خلال الانتقال السياسي، من الاستبداد إلى الديمقراطية، والتكيّف الإيجابي مع معطيات وتحولات العالم المعاصر.
ومع استمرار المحنة السورية، وارتفاع تكلفة استمرارها إقليميًا ودوليًا، يظل السؤال الذي يطرح نفسه: ما مستقبل سورية في ضوء تطوراتها الداخلية، ودور القوى الإقليمية والدولية؟
يدرك السوريون أينما كان موقعهم، في السلطة أو المعارضة، ومنذ زمن ليس بقليل، أنّ ما بات يُعرف بـ “المسألة السورية”، لم يعد حلها بأيديهم، أو في متناولها أيضًا. ولقد تحولوا، في المشهد الراهن، سلطة ومعارضة على السواء، إلى لاعب في مواجهة، أو إلى جانب، لاعبين كثر، ليس أكثر.
وفي الواقع، لم تكن سورية مرشحة لثورة ياسمين؛ لأنّ النظام منذ سنة 1970، قام على الإمعان في تغذية العنف الداخلي لدى الجميع، ولأنّ الجغرافيا السياسية شديدة الجاذبية للقوى الإقليمية والدولية، كما أنّ الثورة السورية، التي انطلقت في آذار/ مارس 2011، لم تكن نتيجة مباشرة لعمل أحزاب المعارضة، بل جاءت من وعي تشكّل في مكان عميق من العقل والوجدان الشعبيين، وهو مكان لم يعد قادرًا على تحمّل أو فهم دواعي استمرار الاستبداد المستفحل منذ أربعة عقود.
ولكنّ الحراك الشعبي السوري شهد تحوُّلات وانعطافات حادة، دفعت وجهته العامة في منحى انحداري، أفضى إلى ما يجري الآن من كارثة إنسانية، وما لاشك فيه أنّ ذلك ناجم من جملة عوامل داخلية وخارجية، تشمل القمع الوحشي من قبل النظام، مرورًا باستجابات الشارع المنتفض وردات فعله، والتدخلات الخارجية بشقيها، المساند منها للنظام أو للمعارضة، ثم الأجندات الخاصة لبعض الجهات، السورية وغيرها، رأت في الأوضاع التي ظهرت في أعقاب الثورة فرصتها؛ لتنفيذ أجنداتها.
ولعل التحول الأول على مسار الثورة، طرأ نتيجة اضطرار قسم من شبابها، الذين شاركوا في حركة الاحتجاج السلمي العام، الذي شمل معظم المناطق السورية، إلى حمل السلاح، ليدخلوا في حرب غير متكافئة مع النظام. لكنّ هذا التحول استحال إلى حرب حقيقية، أزاحت المظاهر السلمية لتظهر مشاعر الكراهية والانقسام، وصعدت مظاهر العسكرة من خلال تسلح مجموعات أهلية، خاصة في الريف السوري. وراحت المجموعات العسكرية، غير المنظمة، تبحث عن موارد تسليحها وعيشها بشتى الطرق، فجاء الدعم الخارجي؛ ليسهم في تعدد ولاءاتها وتناثرها، وعمل على إشاعة فوضى السلاح والتسلح، وإحداث “هيئات شرعية” و”إمارات إسلامية”، بعيدة كل البعد عن أهداف الثورة السورية في الحرية والكرامة، والانتقال من الاستبداد إلى الديمقراطية.
وهكذا، تضافرت على السوريين وثورتهم، لسوء الحظ، مجموعة من القوى والعوامل والأحوال، أدت، في المحصلة، إلى ما وصلوا إليه؛ فمن طغمة حاكمة أرادت البقاء في الحكم بأي ثمن، وتعاملت مع السوريين كقوة احتلال غاشمة، وواجهت مطالبهم المحقة في الحرية والكرامة بالعنف العاري، إلى حلفاء لهذه الطغمة، قدموا لها، بسخاء، كل أسباب القوة والدعم العسكري والسياسي والاقتصادي، وإلى تقاعس غربي تتحكم به الإدارة الأميركية، الحريصة على الإدارة عن بعد، إلى منظمة دولية عاجزة مشلولة، لم يُترك لها سوى حرية التعبير عن القلق، إلى أجندات وطموحات ومصالح عربية وإقليمية، صبت الزيت على النار، ودعمت من يخدم أجنداتها من تنظيمات سياسية أو عسكرية، ما ساهم في تمزيق المعارضة، وإضعافها وتناحرها؛ وصولًا إلى معارضة سياسية، أصرت على البقاء متفرقة، رهنت نفسها للخارج، وانخرطت في صراعات داخلية، ولم تستطع تغطية الثورة.
وتزامن مع كل ذلك انشطار المعارضة المسلحة على الأرض، فبعد أن كان الجيش السوري الحر هو الفاعل الأساسي في مقاومة النظام وصد هجماته على المدنيين، دخلت على خط الأزمة مجموعات مسلحة متطرفة (داعش) و(النصرة)، التي أعلنت قطع صلاتها بـ “القاعدة”، وتحولت إلى “فتح الشام”، دون أن تقطع مع سلفيتها الجهادية ذات الأيديولوجيا الظلامية، بل الأخطر أنّ هذه المجموعات، بات لها الكلمة العليا والقبضة على الأرض، مع تراجع المعارضة المسلحة المعتدلة التي يمثلها الجيش الحر، وأصبحت المعارضة المعتدلة ترزح تحت مطرقة محاربة قوات النظام، وسندان محاربة الجماعات الإرهابية.