يحمل المولود الروائيّ المقبل لسليم بركات، عنوانًا غير معتادٍ من لدنه، كونه لا يحتمل أي تأويلات؛ لمعرفة الحدث الرئيس فيه، وهو المعروف بصعوبة مقاربته لغويًا.
“سبايا سنجار” التي نُشرت فقرتان منها، مُدمجتان بمقال لسليم بركات عن الحقوق المضافة لسجلّ اللون البرتقالي الذي تُلبسه داعش لضحاياها، وهي تمارس هوايتها في فنون الذبح بشغف وبدم بارد في طقوس هوليودية، وعمّا عدّه سليمٌ -ساخرًا مستهزئًا- تدشينًا إيرانيّا لطقوس الحياء في أوروبا “الحمقاء” (في إشارة لزيارة روحاني لإيطاليا التي حجبت تماثيلها العارية عنه).
عنوان يقودنا حكمًا إلى السبي الداعشي، الذي اقترفته داعش بحق فتيات الطائفة اليزيدية الكردية في منطقة جبال سنجار.
غير المعتاد، يبدو لي أنه لم يأت عبثًا، كمن يسعى لإيصال المومأ إليه مواربة، بشكل أكثر مباشرة، بعد محاولة أولى؛ ملتبسة كهويّة نصّه ذاته، والذي تقاعس النقّاد عن الذهاب إليه، بما يلزم من جهد لتفكيك المعنى والسيمياء التي جبلته.
يبدو النقد عاجزًا، عن أيّ مقاربة تأويلية وتفكيكية، للبنيان الروائي والشعري لسليم بركات، أما الهرمنيوطيقا (علم التأويل أو التفسيرية) فتبدو وكأنها خذلت شليرماخر(Schleirmacher)-وسليمًا أيضًا- فيما يتعلّق بفهم النص، فمهمّتها هي فهم النص أفضل مما فهمه مؤلفه.
عدم الفهم هذا، مردّه ليس نخبوية سليم، بل افتقاد النقد لرؤية داخلية مساعدة، وعدم قدرته على ملء “بياضات النص” وفراغاته، والوصل بين الشواخص التي نُصبت فيه، وصولًا لفهم مقنع. يغيب الفهم والتأويل، حيث تغيب الذخيرة المعرفية الاحتياطية، فتتقلّص المخيّلة النقدية لتغرق في العجز وتكفّ عن صناعة اللذّة وتداولها. ليس ذنب سليم أن ناقده يفتقر إلى ذخيرة معرفية احتياطية مضاعفة، حتى يستطيع الكشف عما يذخر به نصه من حياة ورؤيا، وحتى يمتلك القدرة على تأويل موضوعي قال به بول ريكور(Ricœur)، عبر تجاوز ذاتية النص، إلى الفعل المفعم بالرموز، الذي يقوم به، كساحات للعب، تشكّل جسرًا أساسيًا للفهم والتأويل، ليُثمر مرة أخرى، عبر خيال القارئ، بينما يخبرنا هيغل بـ “أن أيّ عمل لا يوجد لذاته، بل لنا نحن، لنتأمّله”. وكثيرًا ما اشتكى سارتر، أنه أعجز من أن ينتج ويكشف في آن. أيّ كاتب يعوّل على أفق قارئه في لعبة الخيال.
أدّى غياب هذا المنهج في النقد إلى خسارتنا لنشوة مطاولة المعنى، وغياب فعل التلقّي المنتج، عبر نشاط القراءة، المساهم في إنتاج هذا المعنى. ولم تكن اللغة، لتشكّل لسليم هوسًا شخصيًا، أو هواية عبثية، بل وسيلة من شأنها فضح كلّ ما هو مستتر، مضمر، مغيّب.
يكاد يورق الإشراق، ويُزهر، في نصّ سليم بركات، في حين تغيب رسائل ساعي البريد ممثّلة في تجلّيات النقد، ليستمرّ حنين هذا النص للديمومة، مشتعلًا أبدًا.
لا يكفّ المعنى عن التفاعل مع نصه، الذي يرنو لألفة من قارئه، وحسن نيّة، ومقام تواصليّ، كمصفاة من شأنها أن توصله للكينونة وتقذفه في الخيال استشفافًا وحدسًا ذهنيًا منفلتًا حرًا.
مع الخيال الطافح الجامح لسليم، والطابع الغرائبي العجيب المعانق للأسطورة، واستعانته بأخلاق السحر، ثم مواظبته على الإقامة فيما يشكّل أصل الخيال واللغة؛ ازداد فشل النقد وجبنه، درجة أو درجتين وأكثر، بعدما استسلم مطمئنًّا لقواعد النقل والتلقين. سيولة طافحة في المصطلحات النظرية، عجزٌ مطبقٌ، استرهاب للمغامرة، وغيابٌ للمجازفة في استخلاص المدهش، عبر تحدّي نصّ سليم الذي هاله “احتقار العرب للخيال واللغة”، بما يعادل افتخارهم بالشعر وألف ليلة وليلة.
يُجزم سليم، بكبرياء الواثق، وخُيلاء المعتدّ، بلا تواضع، أنّه تحدّث عن جنون “الدولة الإسلامية” قبل ظهورها بخمس عشرة سنة، في روايته “الأختام والسديم” الصادرة في العام ٢٠٠١ م. هو لم يؤسّسها على أوراقه البيضاء، لكنّه تحدّث عن كلّ ما يزيل تعجّبنا من انبثاقها عن بيئتنا وتاريخنا “المتوحّشين”.
طُبعت ” الأختام والسديم “، أكثر من طبعة، لكنها ما زالت طبعة أولى، أصلٌ خامّ لـ ” سبايا سنجار “، غير إنّه لا مسوّق لسليم سوى مطابع الحروف العربية.
يتساءل سليم متحسّرًا: ماذا لو كُتبت الأختام والسديم، بلغة غير العربية؟
هو يشير ويلمّح، إلى الهالة التي تُسبغ على روايات غربية بفعل الدعاية الصحفية العربية.
قُرئت الرواية على أنّها مشهدٌ سياسيّ كرديّ، بطقوس السحر في الملحمة الكردية، كمنبع ومفجّر لأسرارها، لكنها في اتّساع مراياها وعويلها، تتجاوز ذلك إلى ما هو أوسع من ألم الكرديّ وعالمه الفجيعة. تتجاوزه إلى فضح القدسيّ المروّج للقتل، وانهيار اليقين بالوجود العربي وخفّته، مهينًا وعن قصد، خزائن المعنى المضبوطة بتملّق، على مقاس أنظمة القتل السياسية القابضة على رئات مجتمعاتها وشعوبها.
مشافهاتٌ وحكمةٌ مشبوهة، مآدب إعدام على تخوم الهاوية، إرثٌ من الظلام العنيف، مجادلاتٌ في علوم الرسم واللون، سلالات وأعراق منقرضة، مدنيّاتٌ قوّضها هولاكو والمغول وتاريخٌ أزليّ من العنف، إرثٌ كاملٌ من الحروب؛ ثم انتقال بالزمن الخرافي إلى حقيقة تُبرزها حروف اللغة ببهاء، في نهايات بلا تفجّع، وانقراض واندثار بلا هلع.
ولئن كان النصّ برمّته، عنوان ذاته، فإن سليمًا -ربّما- جازف بعنوان التضحية بغلاظة لغوية قاسية، لا تعرف كيف تُشهر حنينها؛ فجاءعنوان المولود الجديد، ليصحّح انزياح المساومة الأولى، عنوان التضحية، العنوان تضحية.
دوّن سليم، في أختام السديم، تاريخ أرض”ميدو” وما تمنّاه أن يُكتب بمداد غيره:
“رأس من معك اليوم؟ يتنادى الفضوليون والسعاة… رؤوس بلا أسماء. ألقاب من طحين أصفر. وقد ترأّفت العناية الجبرية برأس الأمير بدرخان فبقي بين كتفيه… أربعون امرأة، أكثر من نصفهنّ يزيديات، فروجٌ موهوبةٌ من عناية الظاهر الجليل للباطن الجليل… لحمٌ مرئيٌّ، مدوّن بحساب الخصائص الصغيرة في الكيمياء، لكنه مستغلقٌ، ملغزٌ، مفاجئ؛ هذاءٌ؛ لحمٌ هُذاء يسوط به العقل ترفه الوحشي في استعراض الله للعقل. واليزيديات اللواتي استأنس الأمير بدرخان منهنّ بمجرّات من ريش الطاووس؛ اليزيديات أولاء نقشن على وسائد الأمير مغانم ملائكة الليل…”
سبايا سنجار محاولة ثانية وحنينٌ للنقد، ودعوةٌ لقارئه ليتّحد معه أكثر، فيمنحه مزيدًا من الحياة، وهو يدلّه على ما لم يكن يعرفه هو نفسه فيما كتب