مقالات الرأي

الدور الوظيفي للأنظمة العربية – الأسد أنموذجًا

انتهت الحرب العالمية الثانية عام 1945؛ وتزامن انتهاؤها مع بدء استقلال معظم البلاد العربية عن الاحتلال الأوروبي العسكري المباشر، باستثناء جمهورية مصر العربية، التي سبق ونالت استقلالها عام 1923.

 

لم يمثل الاستقلال -آنذاك- سوى خروجًا عن الاحتلال العسكري المباشر؛ أي أن ما تلا مرحلة الاستقلال هذه لم يُعبّر البتة عن استقلال سيادي بالمعنى الكلي، فالعنوان الرئيس للاستقلال السيادي هو الاستقلال السياسي بكل أبعاده. فعلى أنقاض الحرب العالمية الأولى و(سايكس-بيكو) ثم الحرب العالمية الثانية وإنشاء الكيان الصهيوني، وما تلاهم من تثبيتٍ لمحاصصات مصالح القوى المنتصرة عالميًا؛ جرت محاولات استعمارية عديدة هدفها العالم العربي، وبالذات تثبيت واقع عربي عاجز عن نيل استقلاله السياسي من جهة، وقطع سبل الميول التحررية عند الشعوب العربية في سبيل الحصول على هذا الاستقلال المنشود من جهة أخرى، وبمعنىً آخر؛ كانت سياسات تلك المرحلة وما تلاها، تصب في خانة تجفيف منابع النهضة. ولم تر هذه المحاولات النور، إلا عن طريق إيجاد أنظمة استبدادية وطغم حاكمة، أولى مهماتها الحفاظ على واقع التخلف والتأخر، ومحاربة أي محاولة وطنية، تطمح إلى تجاوز هذا الواقع.

 

سياسة تحقيق المصالح الغربية ما بعد الحرب العالمية الثانية عمومًا؛ أوجزها الجنرال الفرنسي شارل ديغول حين قال: “كل قوة عسكرية لنا في الخارج ستجد لها مقاومة، وهذا أمر مكلف، وعلينا التفكير مجددًا وبأساليب مختلفة”. أضف إلى ذلك أن المنافسة الاستعمارية التقليدية آنذاك تم البتّ فيها -كمحاصصات- عبر منظومة هيئة الأمم المتحدة، وعلى وجه الخصوص ما عُرف بالدول دائمة العضوية.

 

يمكننا القول من خلال ما سبق أن الأنظمة العربية المعاصرة ليست إلا احتلالاً بالوكالة؛ أتت واستقرت بعد اجهاض شتى المحاولات الوطنية الهادفة إلى نيل الاستقلال السيادي، وهذا ما أثبتته ممارسات وسلوكيات هذه الأنظمة عبر عقود حكمها الطويلة، وهذا أيضًا ما عرّاه الربيع العربي وأثبته بشكل عياني لا لبس فيه.

 

لقد سلط الربيع العربي الضوء على ماهية الأنظمة والطغم العربية، كاشفًا علة وجودها وحقيقة دورها؛ ولم ينسَ هذا الربيع أيضًا تعرية ومكاشفة عهر المجتمع الدولي بشكل عام والقوى الكبرى فيه على وجه الخصوص، فقد وضع الربيع العربي مصالح القوى الكبرى والتي عملت عليها تلك القوى عبر عقود طويلة من الزمن على المحك، ما اضطرها إلى الاستماتة علنًا في الدفاع عن تلك الأنظمة، في سبيل المحافظة على مصالحها الاستراتيجية.

 

ففي خضم الربيع العربي؛ أظهرت الثورة السورية العظيمة حقيقة وجوهر (نظام الأسد) أبًا وابنًا، والذي يحكم سورية منذ ما يزيد عن أربعة عقود، منتهجًا سياسة (التشبيح) في كل مفصل من مفاصل الحكم؛ فما بين خطابه القائم على المقاومة والممانعة، والاشتراكية والتنمية، والحرية والوحدة، وبين ممارسته الهمجية المجرمة؛ تقبع مهامه الوظيفية المنوطة به من حيث بناء دولة أمنية على بحر من الدماء، في ظل تجميدٍ للدستور وتفريغٍ لمضامين مؤسسات الدولة وتعطيلٍ للمجتمع المدني تحت ذريعة أكاذيب خطابه. نتج عن هذا كله أوضاع كارثية في مجمل ساحات الفعل والعمل الثقافي والفكري والاقتصادي والسياسي؛ فبحجة “الصمود والتصدي” تم تجفيف منابع الفكر والإبداع وشل العمل الجماعي بكل أشكاله ولاسيما السياسي، فالأسد ومن يقف وراءه على علمٍ بأن إيجاد ظروف وشروط حياتية ومجتمعية كهذه، ستقف في وجه كل ما من شأنه تعكير صفو مصالحهم، فالإمعان في الإفقار والتجهيل الممنهجين؛ أدخل غالبية الشعب السوري في حالة التأخر والفوات، لتبقى وعلى الضفة الأخرى عجلة مصالح الدول المتآمرة على هذه الشعوب تدور وتتقدم. فحدود “إسرائيل” آمنة، وسياساتها التوسعية جارية على قدم وساق، وواقع التشرذم والتفتت المجتمعي الهوياتي يجري ترسيخه يومًا بعد يوم.

 

ما إن بدأت الثورة السورية العظيمة في آذار/ مارس 2011، حتى كثّف الأسد ماهية نظامه ودوره تحت شعار “الأسد أو نحرق البلد”، مفصحًا عن أولوياته كمحتل بالوكالة، وفي سبيل تحقيق الشعار -الحقيقي الوحيد- في تاريخ هذا النظام؛ استخدم كل أساليبه الهمجية وأسلحته الإجرامية دون تردد أو رادع. ولم التردد إن كانت القوى العظمى عالميًا، هي من أوجدت هذه النظام، وهي من أعطته الضوء الأخضر لأي ممارسة يحذوها من شأنها حماية مصالحهم؟ فمطالب الحرية والكرامة واسقاط النظام أقضّوا مضجع الجميع بمن فيهم ألد “أعداء” النظام شعاراتياً، وعلى رأسهم الولايات المتحدة و(إسرائيل) وبذلوا جميعهم -وما يزالوا- كل ما في وسعهم لإجهاض ربيع الثورات بهدف الإبقاء على نظام الأسد. وأين الرادع إن كان حكام الدول العربية الأخرى شركاء للنظام من حيث البنية ومن حيث الدور الوظيفي؟

 

قد يقول بعضهم: إذن، هي نظرية المؤامرة! وأقول: الربيع العربي أظهر بشكل قطعي لا يقبل الشك، حجم المؤامرات المبيتة والمطبّقة على الشعوب العربية، وإن حكام هذه الشعوب -وفي أحسن حالاتهم- لا يمثلون إلا ذيولًا مهترئة لهذه المصالح، فالأنظمة الاستبدادية العربية والطغم العربية المجرمة هم جزء من الاحتلال وليسوا جلّابين له فحسب، وهم شرايين الحياة لأعداء هذه الأمة. ولم يكن تدخل بعض الحكومات العربية إلى “جانب” الثورة السورية و “جانب” غيرها من ثورات الربيع العربي بحسب ادّعائهم، سوى مصالح وأجندات تخصهم كحكومات، أما آثار هذا التدخل وتداعياته، فجميعنا قد رأى كيف كانت كارثية نتائجه على واقع الثورات العربية، ولاسيما في سورية ومصر واليمن.

 

لست هنا بصدد تحميل كل أعباء الاستبداد ونتائجه على الآخر فحسب؛ فالاستكانة والركود الطويلين من الشعب السوري وغيره من الشعوب العربية أيضًا، كان لهما دور فيما نحن عليه اليوم، فما الارهاصات التي تتعرض لها ثورتنا إلا ثمنًا لذلك السكون القميء؛ ندفعه يوميًا على شكل دماء وآلام يذيقنا إياهما نظام فاجر، انتهج خلخلة أسس مجتمعنا وأفسده، وعمل في مدار عقود على توسيع الهوة ما بين مكوناته حتى أمست شروخًا تكلفنا وستكلفنا دماءً لردمها وصولًا إلى استقلال يليق بتضحياتنا وتاريخنا وثقافتنا.

الوسوم

مقالات ذات صلة

إغلاق