مقالات الرأي

سقوط أيديولوجيا الممانعة

أضحى من الواضح أنه، وخلال السنوات الخمس من عمر الثورة السورية، سقوط أيديولوجية ما يُطلق عليه (المقاومة والممانعة) التي يتبناها نظام حزب البعث العربي الاشتراكي، منذ منتصف القرن الماضي، بأشكال وتسميات مختلفة، ذات مضمون واحد، عبّر عنها في بداية حكمه لسورية في الستينيات، برفعه شعار “القومية العربية” بقصد “تحرير فلسطين من المحتل الصهيوني الغاصب”.

 

تَمثّل أول سقوط لهذه الأيديولوجية في هزيمة عام 1967، حين كان حافظ الأسد وزيرًا للدفاع السوري آنذاك، والذي حكم سورية منذ عام 1970 بقبضة من حديد، مستخدمًا الأيديولوجيا ذاتها، لكن تحت مُسمّى أخر، أطلق عليه (الصمود والتصدي)، كردّ على اتفاقيات السلام التي أبرمها الرئيس المصري أنور السادات مع العدو الإسرائيلي، واستخدم الأسد هذا الشعار في أثناء فترة حكمه في قمع الشعب السوري؛ لتثبيت كرسي حكمه، وبلغت ذروة استبداده حين ارتكب مجازر حماة وتدمر وغيرها بحق الشعب السوري، التي بلغ عدد ضحاياها أكثر من 30 ألف مواطن سوري؛ ما أدى إلى تراجع تلك الأيديولوجيا أمام تلك المجازر، وظهورها بشكل آخر، عبّر عنه بشعار (المقاومة والممانعة).

 

تولى بشار الأسد حكم سورية بعد وفاة الأسد الأب، متابعًا صيرورة الاستبداد الذي مارسه والده على رقاب شعبه، عن طريق استخدام الأيديولوجيا ذاتها (المقاومة والممانعة)، لكنها مُدعَّمة هذه المرة أكثر، عن طريق تحالفه مع حزب الله اللبناني بزعامة حسن نصر الله، الشهير بحمله الأيديولوجيا التحريرية لفلسطين نفسها، من أجل سيطرته على اللبنانيين، لكنها استُخدِمت هذه المرة لقمع الشعب السوري الذي ثار في مارس/ آذار 2011، مطالبًا بحريته وكرامته، وخلاصه من الحكم الدكتاتوري الجاثم على صدره منذ أكثر من 40 عامًا.

 

تصدّى نظام بشار الأسد للثورة بهمجية بالغة النظير، مستعينًا بحليفه حزب الله، تحت غطاء أيديولوجية الممانعة، وعدّ كل من يُعارض النظام خائنًا، بوصفه يقف مع العدو الصهيوني، وضد مشروع تحرير فلسطين والجولان من المحتل الغاصب.

 

ليست هذه هي المرة الأولى التي يستخدم فيها الطغاة في التاريخ قيمًا إنسانية، وأفكارًا مثالية أبدعها الفكر البشري الفلسفي، كقيم العدالة والخير والكرامة والحرية، وتحويلها إلى أيديولوجيا يقتلون بها الشعوب أصحاب الحقوق الحقيقيين؛ حيث تُؤكّد حوادث عديدة في التاريخ أن طغاة ارتكبوا أكبر الجرائم وأبشعها تحت غطاء أيديولوجي إنساني، فقد امتطى هتلر وموسوليني وستالين سلاح هذه القيم، وسحقوا بها الإنسان، فسقطت تلك الأيديولوجيات أمام مجازر أولئك الطغاة، كما يحصل الآن في الحرب السورية، التي يخوضها النظام السوري ضد شعبه بهمجية منقطعة النظير، تحت غطاء شعار تحرير فلسطين واستعادة الجولان المحتل.

 

يعي نظام البعث الممثل بالأسدين، الأب والابن، تمامًا المكانة المميزة التي تحتلها القضية الفلسطينية في ذهنية المواطن العربي عمومًا، والسوري خصوصًا، الذي رسخت في أعماقه الوجدانية، وشكّلت لديه وعيًا قوميًا جعله يعدّ فلسطين جزءًا أساسيًا من الوطن العربي، انتزعته منه اتفاقية سايكس – بيكو قبل أكثر من مئة عام، وانطبعت في سيكولوجية الشعب السوري أهمية تحرير فلسطين، وتقديمها على مشكلات حياتهم اليومية والاجتماعية والقُطرية، ولهذا استغل النظام السوري هذه الورقة ورفع شعار المقاومة والممانعة؛ ليدغدغ به شعور مواطنيه، وسحرهم به؛ وبالتالي، تخديرهم طوال فترة حكمه، وأصبحت لديه هذه المقولة عبارة عن سلعة للمتاجرة، فكانت الشعار الأهم عند حزب الله أيضًا في أثناء حصار مدينة الزبداني، وقصفها بالطائرات وأنواع الأسلحة كافة، وتجويع أهلها لدرجة الموت، فامتزج شعار الطاغية “الموت أو الركوع”، مع شعار “طريق القدس يمر من الزبداني” الذي رفعه حزب نصر الله، وتطبيقه على المناطق السورية الثائرة كافة.

 

ما هو مُلفت للنظر، أن إجرام النظام السوري وحليفه نصر الله، أسقط عنهم سلعة المتاجرة بالقضية الفلسطينية، وأصبحت مكشوفة لدى الجميع من أبناء الشعبين: السوري والفلسطيني، لكن الحجم الهائل من الدمار الذي أحدثته آلة القتل الأسدية بحق شعبه والشعب الفلسطيني اللاجئ على الأراضي السورية منذ عام 1948، كشف زيف الكذب والمخادعة والمزايدة التي يمارسها الطاغية عن طريق رفع  شعار “القدس”، و ما يُدلّل على تهافت أيديولوجيا شعار تحرير القدس عن طريق الزبداني، هو تنكّر الفلسطينيين ذاتهم لشعار كهذا، وإعلان براءتهم من ذلك الخطاب، وتضامنهم مع أهالي الزبداني المحاصرين، حيث رفع أهالي الأرض المحتلة برفع لافتة في القدس، كُتب عليها “لن تركع الزبداني إلا لله، سلام من أحرار القدس لأحرار سورية”.

 

أثبتت الفظائع الدامية والوحشية البربرية التي مارسها النظام السوري بحق الشعب السوري، التي دُمِّرت مدنه وقراه، وامتداد ذلك إلى مخيمات اللاجئين الفلسطينيين، الذين مورس ضدهم كل أشكال القتل من قصف وحصار وتجويع، أن شعار “تحرير فلسطين” لم يعد صالحًا أبدًا لتشريع القتل المجاني المتواصل في المدن والبلدات السورية؛ الأمر الذي أسقط عن النظام آخر ورقة توت مثّلت أيديولوجيا الممانعة، كما سقطت أيديولوجيا قيم الخير عن النازية والفاشية والستالينية السوفيتية.

الوسوم

مقالات ذات صلة

إغلاق