لما بدأ الربيع العربي واشتعلت الثورة السورية؛ بدأت السلفية الجهادية بالتسلل إلى صفوف المتظاهرين؛ وتدعو إلى عسكرة الثورة! واستطاع النظام بخبثه؛ أن يرفدَ صفوف المتظاهرين بجرعة مهمة وخطرة من التيار السلفي الجهادي؛ عندما أطلق سراحهم من سجن صيدنايا؛ منتصف عام 2011 فانخرطوا فورًا بالحراك الثوري؛ وأسسوا أهم الأجنحة العسكرية كجيش الإسلام وأحرار الشام وحتى جبهة النصرة. وبالوقت نفسه اعتقل واغتال وهجّر رواد الحراك السلمي. وهذه الحالة لم تأخذ حقها من الدراسة والتحليل في الثورة السورية.
أخذ الذبح صورته المتوحشة حينما تحول إلى الطرف الآخر رفيق السلاح والثورة والأيديولوجيا؛ حدث ذلك حينما وقع الخلاف بين داعش وجبهة النصرة التي رفضت أن تكون الذراع العسكري لدولة العراق الإسلامية في الشام؛ فبايعوا الظواهري ليرتبطوا تنظيميًا بالقاعدة، مما دفع البغدادي ومجلس شوراه كي يعدوهم قد نكثوا البيعة معهم، وخرجوا عنهم. وبالتالي يجوز قتلهم ذبحًا.
قبل احتدام التكفير والاقتتال بينهما؛ أخذت داعش تصفي بوحشية الكتائب التابعة للجيش الحر؛ لكونها تدعو إلى مشروع وطني بعيدًا عن مشروع الخلافة الإسلامية الذي تدّعيه داعش. ولها صلات بالإدارة الأمريكية كما بررت داعش ذلك في فتوى محاربتها؛ كما حدث مع جيش أحفاد الرسول الذي أنهته داعش في يوم وليلة وأخرجته من المعادلة الميدانية نهائيًا! ثم تابعت عمليات الذبح والتنكيل بالكتائب الأخرى بطريقة مفزعة، أدخلت الرعب في قلوب كتائب الجيش الحر وأفراده؛ مستخدمة ثقافة الذبح؛ وقدمتها للرأي العام بأشرطة فيديو على الطريقة الهولويودية، مما جعلها تربح معارك معهم دون اقتتال حقيقي؛ فالخوف من الذبح الداعشي؛ كان يدفع عناصر تلك الكتائب للفرار من مواجهتهم؛ وأصبحت ثقافة الذبح وتعليق الرؤوس وتصويرها وبثها على مواقع التواصل الاجتماعي حربًا جديدة، تؤرخ لوحشية عصر الذبح الذي وصل ذروته في الحالة السورية.
أصبح الميدان السوري نقطة جذب لكل مَنْ آمن بأيديولوجية السلفية الجهادية؛ وباتت داعش بعد أن ساهم الإعلام العالمي بشهرتها والحديث عن انتصاراتها المذهلة، هي الأنموذج الأفضل لهؤلاء الشباب الذين توافدوا إلى سورية لمبايعة الخليفة البغدادي والانخراط في صفوف جيشه من كل مكان بالعالم؛ ولقد شاهدتُ قبيل سيطرة داعش على الرقة مطلع عام 2014 شبابًا من كل جنسيات العالم؛ جاءوا ليحققوا حلمهم بالجهاد في سبيل الله لإقامة شرعه وتحقيق الخلافة المزعومة.
أمرٌ من المهم التوقف عنده، إذ سقطت معظم النقاط الحدودية للنظام مع الدول المجاورة بسهولة؛ لتصبح سورية بابًا مفتوحًا للدخول إليها دونما أي عناء؟ وربما كان سقوط هذه النقاط الحدودية أمرًا مقصودًا من النظام لشيطنة الثورة من جهة؛ حتى يقدم نفسه للعالم على أنه لا يقاوم احتجاجات شعبية تطالب بالحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية، إنما يقاوم إرهاب مجموعات إسلامية ذات أيديولوجية سلفية جهادية، العالم يتخوف منها كثيرًا. ولكي تسرق هذه التنظيماتُ الثورةَ من هدفها الإنساني الوطني باتجاه مشروع إسلامي عابر للوطني؛ فتقسم الحراك الثوري عموديًا؛ وتشغل القوى الوطنيةَ بهذه التنظيمات التي باتت معوقًا واضحًا في حل المسألة السورية.
استطاعت داعش خلال زمن قياسي أن تطرد كتائب الجيش الحر من المناطق التي حررتها من النظام؛ وتدخل في معارك صورية مع النظام؛ لتسيطر على قرابة (60%) من الجغرافية السورية؛ والأخطر من ذلك؛ قامت بنقل معركتها إلى قلب أوروبا؛ حتى تكسب متعاطفين معها كارهين للغرب؛ فوقعت هجمات باريس في تشرين الثاني/ نوفمبر من العام 2015 شملت عمليات إطلاق نار جماعي وتفجيرات انتحارية واحتجاز رهائن، اقتحم المسلحون خلالها مسرح باتاكلان؛ وأطلقوا النار بشكل عشوائي، واحتجزوا رهائن، ومن ثم داهمت الشرطة المسرح، وأنهت عملية الاحتجاز، حيث فجّر ثلاثة من المهاجمين أنفسهم، وتعتبر الهجمات الأكثر دموية في فرنسا منذ الحرب العالمية الثانية.
ثم وصل الذبح بلجيكا من خلال سلسلة تفجيرات في22 آذار/ مارس 2016 حيث وقع في مطار بروكسل الدولي تفجيران وتفجير ثالث في محطة مترو (مالبيك) ببروكسل، والغريب أنّ التفجيرات؛ وقعت بعد يوم من إلقاء القبض على صلاح عبد السلام المشتبه به الرئيسي في هجمات باريس التي تبنتها داعش.
أما في العراق فحدّث عن ثقافة الذبح ولا حرج ما بين داعش والميليشيات الحشد الشعبي ومن الطرفين؛ إضافة إلى عمليات التفجير التي كان آخرها مذبحة الكرّادة ببغداد أواخر شهر رمضان الفائت؛ وكذلك العملية الإرهابية في الحرم المدني بأواخر شهر رمضان الماضي؛ وقوبلت بموجة استياء عارمة من المسلمين في كل مكان بالعالم؛ ناهيك عمليات تفجير في تركيا؛ كان آخرها عملية إرهابية بمطار اسطنبول في رمضان المنصرم.
ورغم أن جنون عصر الذبح تصاعد بعد دخول داعش الميدان السوري؛ ودورها في تهجير أبناء المنطقة الشرقية من بيوتهم؛ إلا أن العالم لم يتحرك لإنقاذ سورية؛ بل ربما أقول: كان سعيدًا بذلك. إذ أن دخول داعش وأخواتها على خط الثورة؛ يعفيه من استحقاقاته الإنسانية والأخلاقية كما يظن، وكذلك بقدوم الجهاديين الأوربيين إلى سورية؛ يكون قد تخلص من بؤر إرهابية، كانت كامنة في مجتمعه؛ وخلايا نائمة تهدد أمنه.
ما العمل
هذا الذبح المتوحش منذ انتصار الثورة الإيرانية حتى عسكرة الثورة السورية؛ دفع المجتمع العربي عمومًا والسوري خصوصًا؛ ليكفر بالإسلام السياسي الذي سطا على ربيعه الثوري؛ وحرف مساره من حالة سلمية راقية؛ نالت إعجاب العالم كله باتجاه عسكرة أحالت سورية إلى بلد مدمر ذات شعب مهجر في أطراف الأرض؛ لكنه بقي مؤمنًا بالإسلام.
لذلك نحن بحاجة ملحة لوقفة متأنية من دعاة الإسلام السياسي ليقوموا خلالها بمراجعات جادة. فينزعوا من عقولهم أحلام مستحيلة التحقق في عصرنا؛ فلا الحاكمية الإلهية صحيحة كما يطرحونها، ولا الخلافة أصل من أصول الدين. إنما هي شكل من أشكال الدولة؛ تجاوزه عصرُ الحداثة وتطورُ شكل الدولة.
كذلك فإن نظرية تقسيم العالم إلى فسطاطين فسطاط مؤمن مجاهد؛ وآخر كافر تجب محاربته ومعاداته؛ ما قالها القرآن الكريم! ولا دعا إليها رسولنا الكريم محمد، إنما هي تأويلات إلغائية للآخر لنصوص في السنة النبوية؛ ثبت عدم صحة الكثير منها؛ أو نسَخَها فعلُ النبوة؛ وعلى رأسها ما أسس لثقافة الذبح المتمثلة بحديث “أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله”. المخالف لعموم النص القرآني. وحديث “جئناكم بالذبح”. فهو حديث فيه علة بسنده؛ لا أعلم لِمَ صححها بعض علماء الحديث؛ وكذلك حتى لو صحت تلك الأحاديث، فإن النبي نسخها بفعله لما دخل مكة فاتحًا، مؤسسًا ثقافة العفو والتسامح عند المنتصر وناسخًا حديث الذبح (إنْ صحّ) حيث قال “اذهبوا فأنتم الطلقاء”. لم ينتقم من أحد؛ ولا أجبر كبار قريش وأعداء الأمس على الإسلام.
ولا بد لجنون السلفية الجهادية وعمليات الثأر الطائفي الشيعي أن يتوقف؛ ولا يعتقدنّ أحد أن قتال ومحاربة ثقافة الذبح يقضي عليها؛ إنما يحتاج القضاء عليها إلى فكر واعي وعقل إنساني منفتح على الآخرين؛ وإصلاح حقيقي للفكر الديني؛ يخلص الإسلام من عبء تراث فقهي؛ كُتب بعقلية إلغائية للآخر؛ الإسلام بريء منها؛ حتى يعود الإسلام إلى إنسانيته التي اغتصبها منذ زمن غير بعيد فقهاء؛ احتكروا حق المعرفة الدينية؛ وأسسوا لثقافة الذبح في كتبهم وحواشيهم وشروحهم؛ ومنحوا الاستبداد مشروعية دينية.
آن الأوان لنعود إلى إسلام القرآن بعيدًا عن آية السيف الموهومة؛ وندع إسلام الحديث؛ من خلال مراجعات حقيقية؛ تقول للآخر: إن الدين جاء لخدمة الإنسان وليس العكس؛ وأن الأرض يرثها عباد الله الصالحون؛ وليس القتلة؛ ولا عشاق الدماء؛ بل كل مَنْ يقدم خيرًا للبشرية بغض النظر عن دينه أو لونه أو قوميته؛ حينئذ سيتحقق الوعي الذي هو معركتنا الأولى؛ ويعمل العقل المغيب منذ قرون؛ وتنمو روح الإنسانية فينا؛ عندها سنخرج من الثقافة الخشبية؛ وسيعلم الذين تخشبوا أي حطب كانوا. وكم أساؤوا لدينهم.
عندئذِ نعي أن إكراه الآخرين على وجهة نظرنا؛ نظرية ثبت فشلها! وهي مرفوضة قرآنيًا. وأن السياسة هي استكشاف الخيارات الممكنة في ظل توازن القوى على الأرض واحتمالات الخسارة أو الربح على المدى البعيد. وأن الدين يجب أن يبقى متطهرًا من فساد السياسة ورغباتها السلطوية؛ وأن الدولة الحضارية والإنسانية والأخلاقية في مجتمع متعدد المكونات؛ يجب أن تكون حيادية؛ لتخدم كل مواطنيها دون تمييز عرقي أو ديني أو طائفي؛ فتحقق النمو والازدهار.
أما إذا بقي الإسلاميون متكئين على تراث عفا عنه الزمن؛ فإن النتيجة الحتمية أنموذج داعش والولي الفقيه؛ وصراع طاحن يُطيل عصر الذبح، وليعلم أمراء الإسلام السياسي؛ أن شرعيتهم وصوابية منهجهم لا تتحقق باستلامهم السلطة؛ إنما الشرعية لإرادة الشعب؛ يمنحها لمن يؤمنْ له الأمن والأمان؛ ويحق له التنمية؛ وينقله حضارياً إلى مصاف المجتمعات المتقدمة؛ وليس لمن يسوقه إلى الصلاة بسلطان الخوف من الذبح؛ ولا مَنْ يجبرهم على زي معين؛ وهيئات محددة؛ تنتمي لعصر فات أوانه. أو يدعي احتكار الحق الإلهي.
إن العقبة الحقيقية التي تمنع دخولنا المعاصرة هي ثقافية تراثية بالدرجة الأولى مبتدعة، شارك في تأطيرها الاستبداد وفقهاؤه، أدت إلى قصور في الوعي الواقعي، فتولدت عنها أزمة سلوكية، تقدس ثقافة الموت؟ ولا تقيم وزنًا لثقافة الحياة والتعايش الإنساني.
وإنْ صحت نظرية أن الآخر يخطط لتدميرنا، فمن العار والجنون؛ أن نساهم في تنفيذ مخططاته بدعوى تحقيق حلم شرعي. فمعركتنا الأولى والأهم؛ هي الوعي أولًا وثانيًا وثالثًا.