في تأمل المسألة الكردية في المنطقة بشكل عام، وعلى ضوء الاعتقالات الأخيرة التي قام بها حزب الاتحاد الديمقراطي أخيرًا، ضد ناشطين وسياسيين أكراد، لهم تاريخ طويل في مقارعة الدكتاتورية بشكل خاص، تبرز مسألة العلاقة بين الديمقراطية والقومية كإحدى الإشكاليات الحادة المطروحة؛ إذ بات واضحًا أن الوعي القومي للأكراد، وإحساسهم بالحاجة إلى دولة – أمة، بات أقوى من كل الأيديولوجيات والمطالب المرفوعة، في ظل صعود، يعززه الانتشاء بقوة السلاح، والاستفادة من المتغيرات الدولية الحاصلة.
لطالما كانت الديمقراطية في صلب المطالب الرئيسة للأكراد، ضمن سلة اقتراحات لحل المسألة الكردية ديمقراطيًا، عبر الاعتراف بالحقوق الثقافية (الاعتراف باللغة، التعليم، العادات..) للجماعات القومية ككل، في حين كانت الديمقراطية التي يشتركون في المطالبة بها مع السوريين كافة، تكفل حقوقهم الباقية كلها، بوصفها مطلبًا مشتركًا مع السوريين جميعًا، يلتف حولها ويطالب بها الجميع.
ولكن مع بدء الثورة السورية وتقدّمها، بكل ما صاحبها من تطورات وتعقيدات، بدأ يظهر أن الوعي القومي للأكراد، والطائفي لدى بعض الجماعات والأفراد (وحتى الأحزاب)، أقوى من التمسك بالديمقراطية والحرية، وأضعف من امتلاك الإرادة لدفع الأثمان في خوض الطريق الطويلة والصعبة حتى نهايتها.
الأقليات (إثنيات وطوائف)، تراجعت عن الديمقراطية والحرية خطوات، حين وجدت أن المستقبل غائم بالنسبة لها، قائلة: إن الثورة لم تعطها ضمانات، وإن مستقبلها في خطر، وهذا أمر ليس صحيحًا، فالعلة ليست في الثورة التي لا تُعطي ضمانات لأحد، وليس من مهماتها ذلك، وإن كان من مهماتها أن تعمل على تغيير الوعي، وتوضح موقفها من كل القضايا، في حين أن الأفراد والجماعات التي تنظر إلى نفسها من منظار المواطنة، تدرك أنها لا تحتاج إلى ضمانة، لأن مواطنتها، ونضالها في سبيل هذه المواطنة هو الضمانة الوحيدة، وهو أمر لا يتوافر في الوعي الطائفي الذي يرى هويته الطائفية أقوى من هويته الوطنية، فيبحث عن الضمانات، بل ويمتشق السلاح دفاعُا عنها، وهو ما يتمثل، أيضُا، في القوميات التي ترى أن الوصول إلى الدولة – الأمة هو الأولوية اليوم.
شيء شبيه من ذلك، حصل مع أطياف كردية كثيرة، فحين بيّنت الثورة كم هو الواقع السوري مُعقد ومُتشابك، في ظل فشل قوى المعارضة السياسية في توضيح موقفها من كثير من المسائل، بدأت بعض القوى الكردية تبحث عن “ضمانات” لحقوقها، بالتوازي مع تقدم الوعي القومي الكردي على كافة الانتماءات الأخرى للأكراد، بفعل الشعور بأن كرديتهم مهددة (كما يوضح أمين معلوف)، الأمر الذي جعل الخوف الكردي على الوجود والقومية، يتقدّم على مسائل الديمقراطية وحقوق الإنسان، ويتخطى مسألة الحقوق الثقافية، وحل المسألة الكردية ديمقراطيًا.
هذا المأزق قاد أغلب أكراد المنطقة، وليس أكراد سورية فحسب، إلى التمسك بكل من يرفع شعارات قومية ديماغوجية، على حساب المسألة الديمقراطية والحقوقية التي تراجعت خطوات إلى الخلف، وكأن الديمقراطية هباءً منثورًا، فهي هنا ستار يخفي، ومجرد أداة للوصول إلى الهدف، تشترك بذلك أطياف كردية وعربية، فإيمان الإخوان المفاجئ بالديمقراطية، يعادله وجود كلمة “الديمقراطي” في اسم حزب “الاتحاد الديمقراطي”، الذي بيّنت ممارسته على الأرض -بحق الأكراد قبل غيرهم- أنه نسخة سيئة من البعث، فهل أصبح هذا الحزب خيارًا للأكراد السوريين؟ لماذا؟ لأنه يدافع عن قوميتهم ووجودهم، وهكذا أضحى البرزاني “قائدًا عظيمًا” لدى كثير من “الديمقراطيين” الأكراد، على الرغم من دكتاتوريته وإصراره على لي عنق الديمقراطية والترشح لرئاسة الإقليم مرارًا، دون أن يسأل أحد البرزاني عن ثروته، وسيطرة عائلته “المخلوفية” على الموارد والطاقة والنفط والحكومة في الإقليم.
ليست الدكتاتورية مركبًا مبنيًّا من فوق، إذ مهما بلغت قوة أي سلطة، لا تستطيع أن تفرض شيئًا على شعب قرّر التمرد، وهذا لا يحصل إلا حين يفترق الوعي الشعبي عن الوعي السلطوي، وهنا تشكل الأيديولوجية القومية، التي ينجرف إليها الأكراد اليوم، إحدى أدوات المستبدين الأكراد في فرض الهيمنة على شعب، يسعى للتحرر من مستبد عربي؛ ليقع في هوى مستبد كردي، كما يهرب العرب من مستبد أسدي إلى مستبد “إسلاموي”، فتحت ستار أولوية بناء الدولة – الأمة الكردية، أو الحصول على الفيدرالية يجري التعتيم على التراجع عن الديمقراطية وانتهاكات حقوق الإنسان، بحجة أن المرحلة تتطلّب ذلك! ليتعاضد الوعي الشعبي مع الوعي السلطوي (سلطة وأحزاب) الإيديولوجي، فيستمد الاستبداد شرعيته.
مأساة القومية الكردية اليوم، أنها تكرّر، وبالحرف أحيانًا، تراجيديا القومية العربية ومآلاتها، مع فارق أنها تأتي في زمن أضحت فيه القوميات من مخلّفات قرون مضت، بفعل التحولات التي أحدثتها العولمة التي توسع “الطرد والإقصاء”، فما بالك حين يلتقي إقصاء القومية مع طرد العولمة؟
لم يناضل الأكراد طويلًا ضد دكتاتورية الأسدين وصدام والعسكريتارية التركية و”إسلاموية” أردوغان، ليحصلوا على “فيدرالية” صالح مسلم الضيقة والاستبدادية، أو دكتاتورية البرزاني، أو عبادة الأب القائد أوجلان.
يستحق الأكراد مستقبلًا أفضل من ذلك، فالطموح القومي (وقد جربناه عربيًا)، ليس إلا مطية للدكتاتورية (عربية أو كردية)، ما لم تكن المسألة الديمقراطية في صلبه، وهو ما تشهد عليه أقبية الزنازين السورية التي لم تُفرّق بين قومي عربي أو قومي كردي، حين تهدّدت سلطة الأب القائد “العربي”، فلا تستبدلوه بأب قائد كردي، لأنه لن يرحمكم، فالسلطة هي السلطة والدكتاتورية لا قومية أو دين أو طائفة لها، وما يفعله حزب الاتحاد الديمقراطي “الكردي” اليوم، ضد الأكراد المخالفين له بالرأي، قبل العرب، أكبر دليل على ذلك.