يقع مقهى الثقافة بالقرب من التقاء شارع بارون بالقوتلي وسط مدينة حلب، يديرها المحامي محمود حمام، كانت ملتقى للمثقفين من محامين وكتاب، وبعض صغار الكسبة، وكتبة التقارير، كنا نجلس يوميًا في هذا المقهى نتبادل الحديث عن تطورات الثورة، ورجال الأمن يسترقون النظر، يدخل أبو رامي المقهى ويُحدّثنا عن الثورة الفرنسية في مقاربة ممتعة عن الثورتين.
كانت المدينة يومها تعيش حالة إنكار الذات، ويحاول أهلها الابتعاد عن المؤثرات التي قد تصل إلى المدينة عبر نسمات أحرقتهم في الثمانينيات، عندما قُتل الضابط المفوض من حافظ الأسد لقمع أي تحرك بحلب، قد يقلب الطاولة، فكانت مجرزة حي المشارقة في أول أيام العيد، كافية للقبول بالأمر الواقع.. أهل حلب يعرفون أن مجزرة المشارقة هي إنذار بقتل جميع أهلها فيما لو تحركوا.
أبلغني عنصر مخابرات أن أراجع فرع أمن الدولة، وأعطاني مذكرة استدعاء، فاصطحبني أبو عادل بادنجكي مع أحد المحامين إلى مقهى البولمان حيث يجلس فيها غالبية من العسس والمخبرين واللصوص، تكلم أنس الشامي مع ضابط أمن عبر هاتفه الجوال، ونظر إلى باستغراب وقال: أنت خطير وشغلتك كبيرة.
صرت أراجع ذاكرتي، ماذا فعلت، ولماذا وصفني هذا المخبر الذي (يُمثّل الشعب) بالخطير؟
لعلها المظاهرات السلمية التي أشارك فيها، تُمثِّل كل هذا الخطر على نظام أوهن من نسيج العنكبوت، على الرغم من امتداده الاستخباراتي… هم يخشون من اكتشاف السوريين لهذه الحقيقة.
مضيت وحيدًا أتمشى من باب المدينة الجامعية إلى حي المحافظة، الحياة طبيعية، لا شيء يؤرق تلك الأحياء التي مازالت تؤيد النظام، الذي قد يحفظها من القصف طوال تأييدهم له، وأنا في حالة تردد أحس أن خُطاي تعارضان هذه النهاية للفكرة، ثم أحدث نفسي: هل أمضي في طريقي إلى فرع المخابرات سيئ الذكر؟
عدت أدراجي إلى مقهى الثقافة، وأبلغت الأستاذ محمود حمام قراري في مراجعة الأمن، وبعض الأصدقاء. ومن ساحة سعد الله الجابري قطعت الجميلية، وصولًا إلى سوق الإنتاج؛ لأكون وجهًا لوجه أمام الفرع المخابراتي الواقع بين المدينة الجامعية وجامع الرحمن وقصر المحافظ.
أدخلني حرس البوابة إلى بهو الفرع، ورافقني عنصر مدجج بالسلاح، وفي مكتب الانتظار واجهني مساعد بالفرع من منطقتنا، تجاهل معرفته بي، جاء دوري في التحقيق، فهالني منظر شاب ضرير، يدعو لسيادة الرئيس بطول العمر وآثار العذاب واضحة على وجهه.
أجلسني المحقق على كرسي قبالته، واستجوبني لمدة ساعة. وجمع الأوراق الخاصة بي، وغاب لفترة ثم دخل ومعه عنصر آخر، وسألني بصيغة الأمر أن أمشي معه ونزلنا إلى الطوابق السفلية، وتوقفنا عند غرفة الحاسوب، كان يجلس في الغرفة عدد من العناصر ولديهم حاسوب، وبعد أن لبّيت طلبهم بكلمات السر لحسابي على وسائل التواصل الاجتماعي، عاد بي المحقق إلى الطابق الأعلى، وقال لي: انتظر هنا ريثما يأتي دورك في التحقيق.
بعد ساعة من الانتظار وأكثر، اقتادني عنصر آخر إلى مكتب، فوجدت رجلًا لا يتجاوز الأربعين من العمر، استقبلني بحفاوة، وكان الإرهاق والتعب يبدو على وجهه، قدّم لي نفسه: أنا المقدم أحمد لولك، رئيس قسم الطلاب، فقال لي بداية جاءنا تقييمك من “الشام” بالسلبي، تُشارك في المظاهرات، وتؤوي إرهابيين في بيتك، كنت أسمعه وهو يحدثني، وفجأة قال لي: لم تمتد يدي إلى متظاهر، ولم أعط أمرًا لعناصري بالاعتداء على أحد، ودائمًا أُحذر عناصري من المساس بالمتظاهرين، ولا يحملون معهم سوى الهراوات. سألته وما الحل برأيك؟ أجابني: الحل في انتخابات رئاسية مبكرة، وإلا ستغرق سورية بالدماء، فهمت من كلامه إما أنه يستدرجني للحصول على معلومات، أو أنه مقتنع بما يقول: “لابد من الإطاحة بالأسد لتنتهي الأزمة”. وهذا النوع من المحققين يخيفني، فتركته يتكلم وأنا أسمع، فنهض من كرسيه وفتح النافذة المطلة باتجاه المدينة الجامعية وسألني: أتسمع مثلما أسمع، كانت أصوات الطلاب المتظاهرين يتردد صداها في كل مكان، ثم استدار ووضع يديه على الطاولة، وقال لي لابد من حل.
نظر إليّ مبتسمًا، وقال: ليس اختصاصي التحقيق معك، ولكني أنوب عن العقيد تيسير آمنة الغائب في مهمة بمدينة منبج، سأدعك اليوم تعود إلى بيتك، على أن تراجع الفرع غدًا، ثم ودعني بالتقبيل وشد على يدي، وسألني هل تعود إلى هنا حيث العقيد آمنة؟ أجبته أعود إن ضمنت سلامتي، فضحك وقال: أنا لا أضمن أحدًا، ففهمت ماذا يريد مني.
عدتُ إلى مقهى الثقافة، وحدثت أصدقائي عن أني سأعود في اليوم التالي لمقابلة العقيد تيسير آمنة، فاقترب مني صديق وقال لي: هذا العقيد طائفي حاقد إياك أن تركب رأسك وتعود مرة أخرى، لم تمض سوى أيام قليلة حتى سمعت بانشقاق المقدم أحمد، وتدمير مقهى الثقافة، واعتقال صاحبها المحامي محمود حمام.