هموم ثقافية

البوكيمون وإعلام الطفل “السوري”

قبل الثورة، اعتاد التلفزيون السوري على عقد شراكة خفية بين برامج الأطفال، وشركات تصنيع “العلكة”، حيث اتُفق على ترويج صور أبطال أفلام الكرتون ملفوفة بـ “علكة”، تحمل اسم البرنامج نفسه.

 

تجارة رابحة، ظلّت لسنوات تحقق أرباحًا طائلة، وتمدّ الأطفال بمجموعة من صور أبطالهم المفضلين، وتسبب لهم تسوس الأسنان؛ لرداءة نوع “العلكة”.

 

بعض المدارس السورية -في التسعينيات- رأى في صور “البوكيمون” غزوًا ثقافيًا، يشنّه أعداء الأمة، فشكّلت تلك المدارس لجان تفتيش؛ لتطهير المدارس منها، وبدأت بحملات تخويف، قادتها إدارات بعض المدارس؛ لتسليم صور “البوكيمون” إلى الإدارة، والتوقف عن اللعب بها.

 

لجنة مكافحة هذه الآفة عملت -أيضًا- على تجنيد بعض الطلاب “الفسّادين”؛ ليقوموا بالوشاية بزملائهم، ممن يملكون صور البوكيمون، ويحصلون -في المقابل- على امتيازات و”مرحات” وعلامات أكثر مما يستحقون.

جُمعت صور البوكيمون في ساحة المدرسة، وأُحرقت أمام الطلاب الذين صفقوا صفقات طلائعية، إعجابًا بانتصار الخير، واحتراق الشر، وبئس المصير.

في البيت تسرد مديرة المدرسة –بفخر- لضيوفها، كيف تطهرت مدرستها من هذا، بينما ينصت -بصمت- ابنها حمودة “7 سنوات”؛ حتى طلبت منه والدته، المديرة، أن يروي للضيوف كيف تحرر من قبضة الأشرار (البكومونيين).

عندها لم يعد بمقدور حمودة السكوت، فانفجر معلنًا حبه الكبير لهم، وتعاطفه -هو ورفاقه- معهم، وأنه مازال يحتفظ بكثير من الصور، أكثر من التي سلّمهت للإدارة؛ لينهي ثورة غضبه بقوله: أصلًا حتى الله يحب البوكيمون؛ لأنهم ذُكروا في القرآن.

هنا انشدهت الأم الفاضلة وسألته: كيف يعني ورد ذكرهم في القرآن؟

فأجاب: هناك آية تقول: “صم بوكيمون عميٌ فهم لا يرجعون”.

فلم تجد الأم المديرة أمامها سوى واحد من خياريين: إما أن تنجلط، أو ترمي حمودة تحت سيارة زيل عسكرية.

إيراد القصة السابقة، والتي وقعت فعلًا، يمكن أن تكون مدخلًا لدراسة تأثير برامج الأطفال، وأهميتها، على عالم الطفل، فتأسيس ثقافة حقيقية خاصة بالطفل، ومحاورته بلغته، ومخاطبته بعيدًا عن التلقين والوعظ والتخويف، هو ما يحقق الوصول إلى نتائج إيجابية، تبعد الطفل عن الكذب والخداع والادعاء؛ إذ إن طبيعة المواد التي تحشو أدمغة الأطفال الهشة اليوم، سيحصدها المجتمع أنماطًا من السلوك في الغد.

هذا في أيام السلم. ولكن كيف ننظر إلى الطفل في أيام الحرب، وسط المشاهد البصرية المؤذية، كيف نصنع عنه تقريرًا متلفزًا؟  كيف نتعامل مع هذه الفئة التي تمثل مستقبل البلد، وقد تعرضت -بعرف القانون والأخلاق والإعلام- لأبشع ما يمكن أن يحصل لطفل (أي: لمستقبل).

سأورد هنا بعضًا من النتائج العامة والخاصة، بعد عدة دورات حول الطفل عامة، والطفل السوري بخاصة، في كيفية التعامل الإعلامي معه.

حقائق عامة

  • لا يوجد طفل غبي، مهما كانت عدم استجابته لما تقدمه له؛ إنما هناك بالغ لا يعرف كيف يجد نقاط القوة والتمايز عند الطفل الذي يعمل معه أو يربيه؛ فجهلك بلغة الطفل وعالمه وأفكاره وأحاسيسه، هي التي تحوّله إلى طفل متأخر أو خائف أو عنيف أو متبول لا إراديًا في الليل.

–  لغة الطفل الحقيقة لا تشبه لغتك؛ لأنه لا يملك غزارة مفرداتك، ولكن إن راقبت لغة جسده وسلوكه فقد تفهم، وتتفهم لماذا وكيف يتصرف عكس ما تريد.

  • إنه كائن بطور الحرية الخام وأنت كائن مكتمل القوانين.
  • إنه كائن يعرف أكثر مما تتخيل، ويسعى للتواصل معك، ولكن بلغته وليس بلغتك، وصمته جزء حميمي من لغته.
  • إذا كان هناك سوء في التواصل، فاعلم إنها مسؤوليتك وليست مسؤوليته.
  •  إنه كائن يستحق الاحترام والاهتمام والوقت، مثله مثل أي بالغ.
  • الطفل يقدم لك الرضوخ، وهو غالبًا عاجز عن مواجهتك، ولكنه سيتحين أول فرصة؛ ليعلن تمرده عليك بطريقة تذهلك، وعندها قد تكون النتائج كارثية.

 

  • في الطور الأول من طفولة الأطفال، تبنى المفاهيم قطعة قطعة، فساعدهم في إيجاد أجوبة عن محيطهم، بالاعتماد على الحواس، ليختبروها ويكتسبوا المعرفة وفق ما تقدمه لهم.

في إحدى الدورات التدريبة حول الطفل السوري والإعلام، أعادنا إلى الواقع سؤال من إحدى الزميلات المشاركات، ممن يعملن على الأرض داخل الأراضي السورية، حين قالت: نحن نعدّ تقارير وتغطيات من مخيمات اللجوء والمناطق التي خرج منها النظام، فماذا يمكن أن نقدم لطفل فقد البيت، وشاهد ذل العائلة أمام عينيه وعاين الفقد، وعايش الموت والدمار والقصف، وانتُزع من أمان حياته، تحت وابل من الأفكار والحقائق التي يعجز حتى الكبار عن تفسيرها؟

جاء الجواب من البروفسورة مايا غوبلز، المختصة بإعلام الأطفال: كإعلامي ليست مهمتك أن تعالج هذا الطفل، فأنت غير مؤهل لذلك.

ثم انتقلت بنا إلى عالم الأطفال المتعرضين لصدمات وهزات وجدانية عنيفة. لتخبرنا ماذا يمكن أن نقدم لهم، كبشر أولًا وإعلاميين ثانيًا.

أول ما يجب أن يقوم به جميع المعنين بإنتاج تقارير، أو برامج تُعنى بشؤون الطفل المتعرض للصدمة، أن تكون مادتها للأطفال وليست عن الأطفال!

فابتعد عن استغلال الأطفال، وإثارة التعاطف باسمهم، لخدمة قضية مهما كانت عادلة.

يمكن لك أن تنحاز لقضية تراها عادلة بتقرير عن معاناة الأطفال، ولكن هذا التقرير لا يعني برامج الطفولة، إنما يعني الكبار وصراعهم.

في التقرير أو البرنامج الذي تريد مشاركة الطفل الفعلية فيه، لا مشاركتك أنت عبره، عليك أن تتخذ خطوة للوراء، وتترك للطفل مساحته؛ ليعبر بعفوية، بعيدًا عن انطباعات الكبار عما يقوله.

أما إذا كان الطفل في مكان استثنائي مثل المخيمات، أو طفلًا يعبر مع أهله في قوارب الموت، أو طفلًا في مناطق منكوبة ومحاصرة؛ فعليك أن تكون مزودًا بحقائق إضافية، تفوق المعد والمنتج والمخرج، وحتى الإنسان العادي، يمكن تلخيص أهمها بالتالي:

الطفل المتعرض للصدمة، لا يستطيع أن يتعلم، يكف عن الاستقبال، والحفظ والتفاعل، لكي يحافظ على نفسه في حالة أمان.

الطفل المتعرض للصدمة، مهما بلغت الصدمة، لا يفكر بالانتحار، الأطفال هم الفئة الإنسانية الوحيدة التي لا تفكر بالانتحار.

الطفل يحاول بهدوء أن يتفقد العالم خارج محيطه، فكلما وجد مساحة أمان بدأ بالتقدم والخروج.

 

الأطفال الذين يتعرضون للترويع والصدمات يتجاوزونها أسرع بكثير من البالغين، ويبدؤون بالتعافي عندما يتوافر لهم الحيز المستقر ولو نسبيًا.

 

الأطفال أكثر شجاعة داخلية من الكبار.

إذا كنت إعلاميًا محترفًا حاول ألا تستخدمهم في معارك إثبات وجهات النظر، ابحث عن نقاط المقاومة في داخلهم، وساعدهم ليطوروها بكل الطرق الممكنة.

في أسوأ الأماكن التي يعيشون فيها، لدى الأطفال دومًا القدرة على الابتكار والتكيف، شجعهم ليعملوا ويتعاونوا.

استمع لمأساة الطفل باهتمام، واستمع لما بعدها، دعه يتكلم عن جرحه أو فقدانه إن هو أراد، ولكن لا تركز على هذا الجانب؛ ثم اسأله عن نفسه ويومياته، ماذا يجمع؟ ماذا يفعل؟ كيف يتصرف؟ اكتشف بماذا يهتم، ركز في اهتماماته وادعمه.

لا تركز على ما فقده (إن كان يرسم ما فقده شجعه ليرسم ما لديه)، تفاعل بعطف لطيف مع فقدانه، تفاعل بحماس أكبر مع ما لديه.

حاول أن ترى أين تكمن قوة هذا الطفل، بالقراءة، بالركض، بالشقلبة، بالموسيقى، بالرسم، باللعب، واستمتع معه.

لا تنتقد مكامن ضعفه لإصلاحها، بل نمِ فيه نقاط قوته؛ ليتبناها أكثر.

ليكن الطفل هو مركز الحدث والقصة.

ليكن تقريرك إيجابيًا بحقه وبه مسّ من الأمل.

لا تكذب عليه، لا تعده بما لا تستطيع فعله.

اعمل علاقة شخصية معه قبل التصوير، تعرّف إليه، ودعه يطمئن إليك.

خصص له كل وقت التصوير باحترام وبحب، من دون مبالغة أو استعراض.

حاول ألا تسمح لأهله بالتأثير عليه، حرره منهم ليكشف عن نفسه أكثر، لا عن الصورة التي يريدونها له.

تذكر أن هدف الطفل هو أن يكبر، مهما كان وضعه وقصته وشكل حياته الحالي، فهو يريد أن يكبر، يعني يريد أن يعيش، ويحلم ويغيّر ما هو عليه.

تذكر، قد يكون اللقاء معك أهم حدث صار معه، وربما يغيّر حياته، لا تستهن بذلك.

ساعده ليتقبل أطفالًا آخرين إن لزم الأمر ليتعلم المشاركة.

لا تقمعه ولا تحاكمه، فهو يشعر بك أكثر مما تتخيل، إن كنت صادقًا سيصغي وإن كنت تنظر إليه بإيجابية سينتبه ويثق بك.

أنزل الكاميرا إلى مستواه، لا تصوّبها عليه من فوق.

انتبه للاقط، لا تضعه أمامه مباشرة، فتحجب وجهه الصغير؛ استخدم “النيك مايك” إن استطعت أو “البوم”، ولكن تجنب اللاقط الكبير.

لا تسأله عن السياسية ولا تأخذ منه تصريحات عن الصراع، لا تشركه في الشتائم ولا تورطه بالبكاء.

لتكن مقابلتك معه ملكه الشخصي، يتحدث بها عن أي شيء يخصه هو، حتى لو كان الحديث عن جواربه، لعبته، حرره من الأجندة.

اعقد العلاقة مع الطفل واجعله يتعرف على الكاميرا ويلمسها، وتجريبها، قبل التصوير يساعدك كثيرًا أثناء التصوير.

انزل إلى مستوى الطفل، اركع على ركبتيك أو اجلس؛ ليكون مستوى نظرك بمستوى نظره في أثناء الحديث معه.

لا تجزره أو تسخر منه مهما فعل، إن لم يكن مناسبًا لتقريرك؛ فالمشكلة غالبا فيك.

لا تَعده أو تَعد أهله بما لا تستطيع تحقيقه، إياك والكذب على الطفل وأهله من أجل التصوير، كن نزيهًا وجادًا وصادقًا.

العمل مع الأطفال في الإعلام هو الأصعب والأصدق، ومنتج برامج وتقارير الأطفال ومصورها هو الأشجع والأكثر تعبًا، احترم مهنتك ومهمتك ودافع عنها.

أخيرًا يحتاج أطفال سورية إلى لحظة نزيهة؛ لنزعهم من الصراع، فهذا الجيل قنبلة موقوتة إن لم نبادر جميعًا للحاق بمن تبقى؛ بعمل جاد وتمويل محترم وتدريب للكوادر المعنية، إن كنا نريد مستقبلًا للبلد.

علينا تخصيص الوقت والجهد والمال لهؤلاء؛ فهم الأجدى من بين معظم المشاريع المطروحة لتجاوز الآن.

 

مهما بذلنا من وقت وجهد؛ فهناك حالة من الإغلاق العقلي لن ينفع معها شيء، ولكن علينا تخليص لفظ (الطفل) من الدونية والإنكار والاستخدام المجاني في الصراع والعمل معه، فهؤلاء بعد عشر سنوات مستقبلهم بأيدينا، وبما نفعله اليوم، فالأمر لن يُحلّ في سورية حتى يصبح صغار البلد راشدين، هؤلاء هم من تبقى من أمل إن كنا نجيد الرؤية أبعد من الآن المحتقن؛ بكل أنواع العنف والصخب والديناميت.

 

الوسوم

مقالات ذات صلة

إغلاق