قضايا المجتمع

الحدود.. خط الحياة والموت.. وحكايات قتلى من سورية

على الخطّ الفاصل ما بين الدولة السورية والدولة التركية، وتحديدًا لصقَ العمود الذي قُتل إلى جانبه العديد من المدنيين الأبرياء المغلوبين على أمرهم، إثر محاولتهم الفرار  والنفاذ بحياتهم نحو الأمان المنشود، وتُركوا هناك جثثًا؛ حتّى يتسنّى للمدنيين في الطرف السوري أن يتعرّفوا على الوجوه المشوّهة لتلك الجثث، تعيش هناك الأحجار برفقة البشر وتبقى صامدة وشاهدة على تدهور الأوضاع السورية، واضطرار الناس إلى مغادرة البلاد نحو الدول الأوروبية المختلفة، أو رغبةً في الخلاص بالجلوس تحت خيمة تابعة للأمم المتحدة، متفرّجين ومندهشين مما يجري في بلدهم، وعلى بعد أمتار قليلة من منازلهم التي لا زالت تحتفظ بكل الحكايات.

 

أوّل الحكاية

قبيل تدهور الأوضاع السوريَّة بشكل عام، كان جزء من أهل “المنطقة الكرديَّة” يعتاشون على تهريب البضائع عبر الحدود التركيَّة، بإدخالها إلى الأراضي السورية، ومن ثم بيعها بفواتير يُزوّرون فيها بلد المنشأ؛ خشية أعين المخابرات السورية التي كانت تتربص بهم، واستمرت الحالة لسنوات طويلة، واعتُقل من اعتُقل، وبعضهم غُيِّب في السجون السوريَّة سنوات مديدة، وهاجر من هاجر، ليقيم في تركيا متفرّجًا كل مساء على أنوار مدينته.

 

“دلير” أحد مواطني مدينة عامودا الملاصقة للحدود التركيَّة، قُدِّر له أن يغادر مع أبويه، قبل عشر سنوات من اندلاع الحراك الثوري في سورية، كانَ محتفظًا داخل ذاكرته الغضَّة بصور الحارات الضيّقة والبيوت المتلاصقة والأسطح المكشوفة على بعضها بعضًا، إسمنت وطين يخدشان الذاكرة ويحركانها، دكاكينُ صغيرة تبيع الحلوى للأطفال، غاب كل هذا وفقًا لما يقوله، وحلّت محلّها أماكن تتشبّه بالأوروبيين، حيث لا وقت إلّا للعمل، “كنت مع أبي الذي كان يبيع أدوات كهربائية في أحد الأحياء في إسطنبول التركيَّة، كانت اللهجة غريبة عنّي، ولكن مع مرور الأيام انتقلنا إلى قرية على مقربة من الحدود السوريَّة، والدتي كثيرًا ما تحدثت عن بيتنا الذي أذكره بوضوح، ولا أعلم ما الذي كان يدفعها لأن تتحدّث، وتخبرني بتفاصيل المنزل، وأنا الذي يتذكّر كل شيء كحقيقة لا تغيب”.

 

كان الناس يتابعون ما يجري في سورية عبر شاشات التلفزة، وعبر الهواتف عن طريق آخرين يقطنون في سورية، لا يوجد أحد من أكراد تركيا إلّا وله أقارب أو أصدقاء هناك في الشمال السوريّ. اشتعلت الشوارع في العاصمة دمشق وامتدت لتصل إلى باقي المحافظات السوريّة؛ ليتحول المشهد بسرعة فائقة إلى قتامة مستدامة؛ حتى الراهن من أيامنا التي نعيشها، وتكونت الصراعات، واشتعلت الجوانب العسكرية لكل تيار، عمّت الفوضى وتهجّر الناس من بيوتهم؛ ليختفوا في مشارق الأرض ومغاربها مُبعَدين عن بيوتهم وأماكنهم التي كوّنوا معها علاقاتٍ لا تموت، ويقول دلير: “أحيانًا كنت أسمع أصوات الهتافات عبر التلفاز، كانت المشاهد من مدينتي تدفعني إلى العودة، ولكن أبي كان يمنعني بذريعة عدم القدرة على الإياب، واستحالتها في الأوضاع الراهنة”.

 

 البكاء ملح السوريّ

فقد والده وهو يعبر بطريقة غير شرعية الحدود الفاصلة بين سورية وتركيا، حينما رغب في زيارة مدينته، يقول دلير وهو يرنو إلى صورة الوالد الخمسيني المعلّقة على جدار بيتهم القديم: “لا بد أن شيئًا ما يشبه المعجزة حصل بأن بات السوري الآن يلعب -مرغمًا- دور الرهينة على الجهات كافة، فكل ما مرّ خلال سنوات خمس، مشاهدُ متتالية من كابوس أسطوري عتيق، يسبح في مياهه السوري، ذلك الكابوس أصبح الآن حقيقة مرّة، فلتكفّ كل الجهات عن قتل السوريين”.

 

حكايات كثيرة يمكن تدوينها وتوثيقها بلغة الأرقام والسرد على طول الحدود السورية – التركية، إلّا أن الفوضى السياسية والأمنية تجعلان ذلك دون فائدة، ولا تلقى حتى آذان صاغية من المجتمع الدولي الذي تقمّص شخصية المتفرّج على الدم السوري فحسب.

 

نهاية الحكاية

هربًا من التجاذبات السياسية والعسكريَّة، لا يبصر المواطن السوري نفسه، إلا وقد وقف وجهًا لوجه مع أعباء الحدود، على الرغم من أن الأوضاع لم تكن بهذا السوء في مقتبل عمر الثورة السورية، وبدء نزوح المدنيين السوريين، لكن الآن باتت الحدود التركية وغيرها من الحدود التي تفصل سورية عن الدول التي تحدّها، من أخطر المناطق إطلاقًا على حياة السوري، فالإحصاءات اليومية تُشير إلى مقتل العديد من المواطنين الهاربين من الجحيم السوري نحو الخلاص المرتجى، دون أن يتحرّك المجتمع الدولي نحو إيجاد حلّ لهذا القتل، أو على الأقل العثور على معابر آمنة للمدنيين السوريين، وإنهاء الحكايات السورية المليئة بالدمّ والنواح.

 

عود على بدء

على الرغم من خطورة الحدود وتوارد الأنباء -يوميًا- عن مقتل المدنيين، ونشر تلك الأنباء عبر وسائل الإعلام المتعدّدة، إلّا أنّ الهجرة غير الشرعية في تزايد مستمر مع اشتداد اضطراب الأوضاع في الداخل السوري، لتتزايد والحالة هذه حكايات القتل اليومي على أيدي الجنود الذين يحرسون حدود بلادهم، يقول (مهند) من مواطني مدينة عامودا الواقعة في الشمال السوري لـ (جيرون): “لا أجد الحل البديل للبقاء في البلاد، لقد فقدت عملي نهائيًا، عليّ أن أتدبّر أمري”.

 

وعند السؤال حول طريقة الخروج من البلاد واحتمالات الخطر العديدة يقول: “لقد اتفقت مع أحد المهرّبين؛ ليوصلني إلى ما بعد الأسلاك الشائكة، لقاء مبلغ مالي وصل إلى الـ 600 دولار أميركي، ولا أعرف إن كنت سأصل أم لا، ولكن يبقى التفاؤل شيئًا ملحًّا في الأوضاع التي نعيشها”.

Author

الوسوم

مقالات ذات صلة

إغلاق