مقالات الرأي

مطرقة الطوائف ومسامير الصراع في سورية

وضع إبراهام ماسلو، عالم النفس الأميركي عامَ 1966، قانون الأداة، أو ما يسمى بـ “مطرقة ماسلو”؛ والتي تقول بشكل مبسط: “إذا كان كل ما تملكه هو مطرقة، فكل شيء حولك سيبدو كمسامير”. وهذا قانون يشرح الكثير من تصرفات الأفراد والجماعات الإنسانية، كأن تسيطر المهنة -مثلًا- على عقل صاحبها، فلا يرى الأشياء إلا من خلال مهنته، فلو شاهد عدة أشخاص بقرة ترعى من حشيش البستان، سيراها الفلاح مصدر حليب، والجزار سيقدّر كم كيلو من اللحم تزن، والطفل سيراها لعبة مسلية يراقبها، والشيخ سيسبح لله في خلقه؛ هذا السلوك العادي للإنسان قد يتضخم عند بعض الأفراد، وأحيانًا الجماعات، ليصبح سلوكًا مَرضيًا، تتزايد خطورته في الأزمات، حين تغيِّب المطرقةُ الأسبابَ الحقيقية للأزمة؛ وبالتالي، يغيب حل الأزمة خلف المسامير.

 

هذه المقدمة النفسية لمناقشة أسلوب قديم جديد في السيطرة على توجهات الجموع البشرية، فمن أصول الحكم القوي، أن يحاول الحاكم تضييق الخيارات أمام المحكومين لأقل حد ممكن، وذلك يتم غالبًا باستخدام الإعلام، الذي يتضمن -بأبسط أشكاله- الشائعات، وصولًا إلى وسائل الإعلام الحديثة؛ وبملاحظة تطور طرح الإعلام حول سورية خلال السنوات الأخيرة، نجد أن الإعلام الغربي، وللأسف العربي أيضًا، قد قزّما النقاش حول سورية إلى نقاش حول خطر فناء “الأقليات”، إن انتصر من يسمونهم “إسلاميين جهاديين”، أو حول مظلومية “الأكثرية” لكون طاغية سورية من الطائفة العلوية.

 

يميل العقل الجمعي البشري -عادة- إلى التفسيرات السهلة للبيئة حوله، بحلوها ومرّها، فهذه خاصية بشرية مقيمة منذ آلاف السنين، وليست حكرًا على شعوب هذه المنطقة؛ فمثلًا، يُعاني الأوروبيون من تباطؤ في النمو الاقتصادي خلال السنوات الأخيرة، والعديد من المشكلات الاقتصادية على الصعيد الفردي، إضافة إلى تزايد نسبي في العمليات الإرهابية؛ هنا أيضًا، وعلى الرغم من أن الأوروبيين الغربيين ينعمون بأفضل مستويات التعليم والحرية والحالة الاقتصادية، إلا أن البحث عن تفسير بسيط للمشكلة قاد كثيرين منهم إلى استسهال التفسيرات الساذجة، وتصديق أن “المسامير” سبب المشكلة هي اليورو، واللاجئون؛ على الرغم من أن أغلبية الاقتصاديين والمتخصصين تدرك أن السبب هو بنية النظام الاقتصادي نفسه، والهزات الارتدادية المستمرة للأزمة المالية العالمية 2008، وأخطاء إدارة الاتحاد، والمشكلات بين الدول الأعضاء، ضمن صعود النظام العالمي الجديد؛ إذًا، الأسباب الحقيقية لعمق المشكلة الأوروبية معقدة، وعصية على اللمس من قبل الشارع، ولا يمكن أن تكون مجرد “مسامير”، إدراكها ولمسها يحتاج إلى ما هو أكثر من “مطرقة”، إنه بحاجة إلى معلومات، وإلى منهجية تحليل للمعلومات.

 

مطرقة التفسير الديني والطائفي لسير التاريخ مطرقة قديمة متأصلة في بلادنا، فكثيرون من السنّة ما زالوا مقتنعين أن التشيّع مؤامرة عبد الله بن سبأ اليهودي، وأن كل الانتكاسات والمصائب أتت بسبب الشيعة أولًا، و”الصليبية الصهيونية ” ثانيًا؛ وما زال كثير من الشيعة مصدقين أن السنّة مؤامرة كعب الأحبار اليهودي، وأن كل الانتكاسات أتت بسبب السنة أولًا، و”الصليبية الصهيونية” ثانيًا. هذه المطرقة الطائفية كانت وما زالت من أهم أدوات حماية “السلطة”، وفي منطقتنا الآن وخاصة بسورية، حيث شاءت الصدفة التاريخية أن يحكم سورية ديكتاتور من الطائفة العلوية، لم تبتعد هذه المطرقة عن العقل الجماعي السوري والعربي؛ بل ازدادت قوتها وبطشها منذ صعود الخمينية في إيران، ومواجهتها مع الوهابية في السعودية، فالصراع بين سلطتي البلدين في أغنى منطقة بالعالم بالنفط والغاز كانت بحاجة لمطرقة تجيّش الشارع وتضمن استمرارية السلطة؛ ثم أتى التحالف الاستراتيجي بين حكام سورية وإيران؛ ليرسخ هذا التفسير “المطرقة”، بما يتفق مع الميل الجماعي لهذا النوع من التفسيرات السطحية.

 

ومع اندلاع الثورة السورية، كانتفاضة شعب مظلوم يطلب الحرية والكرامة، تحركت كل الحكومات الإقليمية بأموالها وإعلامها وأصواتها، سواء الدينية أو الفكرية، لترسيخ قوة المطرقة الطائفية في العقل الجماعي السوري، وباتت مواجهة هذا المنهج في التفسير والتعبير أصعب، ربما، من مواجهة الصواريخ والبراميل التي دمرت سورية خلال ست سنوات؛ فهذا التفسير مدعوم تاريخيًا بـ 1400 سنة من صراعات السلطة باسم السنة والشيعة، ومدعوم خلال 40 سنة من حكم الديكتاتور السوري بسياسة استغلال الطوائف والقوميات في ترسيخ حكمه؛ وخلال السنوات الست الماضية، تحرك دعم هذا التفسير عبر فصائل إسلامية جهادية، ترفع رايات السنة والشيعة، مصحوبة بحملات تحريض طائفي إعلامي هائلة، ممولة بسخاء، في الإعلام العربي (من كل الأطراف)، وفي الإعلام غير العربي؛ والذي قوّى هذه المطرقة الطائفية أيضًا غياب أي مقاومة إعلامية وفكرية لها، فلقد اتضح خلال السنوات الست الماضية، ضحالة الإنتاج العربي الفكري التوعوي عبر طبقة “النخبة” التقليدية، سواء كانت إسلامية، أو ليبرالية، أو يسارية؛ فشهدنا سقوط أكبر الأسماء الفكرية على سندان التفسير الطائفي للمأساة السورية، فالمعلومات متوافرة، لكن منهجية تحليل الواقع والتاريخ هي الغائبة خلف مطارق التفسيرات الشعبوية.

المطرقة الطائفية ترافقت مع مطرقة نظرية المؤامرة الكونية، سواء ساقها النظام السوري ومؤيدوه، أم ساقها معارضوه من إسلاميين أو ليبراليين؛ هذا الاستسهال بتفسير المأساة السورية أدى إلى تعميق الشروخ بين السوريين، وتشتيتهم في جماعات شتى؛ ما مكّن النظام وحلفاؤه من الاستمرار في حربهم، ومكّن خصوم النظام من التحكم بحركة الشارع السوري المعارض، وتحويل الثورة السورية إلى صراع طوائف.

 

ليست الغاية إنكار المشكلة الطائفية وجذورها التاريخية، فهذه المشكلة موجودة وعميقة وخطِرة، لكن هناك فرق هائل بين تفسير الصراع على سورية، وفق أسبابه الحقيقية، المتعلقة أساسًا بديكتاتورية حاكمة ترفض التنازل، وبالصراع الدولي الأشمل ضمن حركة السوق العالمي، وبين تفسير الصراع على سورية على أنه مجرد صراع طوائف وأديان وقوميات؛ الطوائف والقوميات في سورية ليست أسبابًا للصراع، بل أدوات تحكم بالصراع، وإدراك هذه الحقيقة هي الخطوة الأولى الأساسية في النهوض بالوعي السوري؛ لإنقاذ ما يمكن إنقاذه من سورية.

الوسوم

مقالات ذات صلة

إغلاق