تحقيقات وتقارير سياسية

منبج ما بعد داعش إلى أين

ما حلّ من تخريب للحالة الثورية في (منبج)، لا يبدو بعيدًا عما حلّ بالثورة السورية -عمومًا- من اختراقات أدت إلى تشعبات وتشظّيات في غاية التعقيد، ولكن ما يحدث في هذه المدينة، منذ 31 أيار/ مايو الماضي، أي منذ بدء الحصار المفروض عليها إلى الآن، هو أبعد من أن يكون تجسيدًا لرغبة دولية باستئصال تنظيم (داعش) من المدينة، وكذلك يتجاوز المخاوف الكردية من وجود هذا التنظيم بالقرب من مدينة عين العرب (كوباني)، بل إنه -بكل وضوح- ترجمة فعلية لتطلعات حزب الاتحاد الديمقراطي، مُمثلًا بـميليشيا “قوات سورية الديمقراطية”، الطامحة إلى وضع اليد على الأرض، بحكم حيازة القوّة التي يمنحها لها التحالف الدولي.

 

لعلها من المفارقات المؤلمة أن يكون تاريخ 19 تموز/ يوليو، وهو اليوم الذي ارتكبت فيه قوات التحالف الدولي، وبالتنسيق مع ميليشيا “قوات سورية الديمقراطية” مجزرة في قرية (التوخار)، الواقعة على بعد 17 كم شمال مدينة منبج، وراح ضحيتها 212 سوريًا، بينهم 90 طفلًا، إضافة إلى عدد كبير من الجرحى والمصابين، وهي مفارقة حزينة أن يكون هذا التاريخ ذاته ولكن في عام 2012، هو تاريخ تحرير منبج من قوات نظام الأسد.

 

يبدو أن قسوة الظلم الذي طال الثورة السورية على العموم، قد تجلى بكل سوداويته في ذكرى تحرير هذه المدينة، التي كانت من طليعة المدن السورية التي هتفت للحرية، وجسّدت أنموذجًا للحراك الثوري السلمي، كما جسّدت مثالًا طيبًا للوعي الثوري الناضج، الذي حافظ -وبكل جدارة- على مؤسسات الدولة ومرافقها الخدمية، كما جسّد أبناؤها كفاءة عالية في الإدارة المدنية، والحيلولة دون شيوع مظاهر التخريب والفوضى، ولعل كلّ ملامح المدينة بعد تحريرها، كانت تريد أن تقول للعالم: “سورية بدون نظام الأسد هي الأفضل”.

 

على الرغم من كل عوامل الرفض المنطقية التي تبديها الجغرافيا والبنية السكانية، ذات الأغلبية العربية الساحقة، وعلى الرغم -أيضًا- من كل العواقب المستقبلية الوخيمة التي ستجلبها هذه الطموحات على المنطقة الشمالية من حلب، إلا أن استغلال حزب الاتحاد الديمقراطي للتأييد العسكري، والتغطية الجوية من جانب التحالف الدولي بقيادة أميركية، جعله يعتقد أن القوّة التي يحظى بدعمها -الآن- كفيلة بأن تجعل من طموحاته المفترضة أمرًا مشروعًا، ولو أدّى ذلك إلى استئصال جميع المكوّنات السكانية غير الكردية، وكذلك لو أدّى إلى تدمير وخراب المدينة، وإحالتها إلى أكوام تراب فوق رؤوس سكانها.

 

لقد أتاح شعار “مكافحة الإرهاب الداعشي” الذي ترفعه الولايات المتحدة الأميركية، وتمارسه ميدانيًا، وفقًا لما يلائم مصالحها، فرصة  ملائمة لحزب الاتحاد الديمقراطي للخروج من عباءة “المظلومية التاريخية”، لا لينادي باسترجاع حق منهوب، “طال الأكراد السوريين جميعهم” طوال تعاقب الأنظمة الاستبدادية على الحكم في سورية، بل ليأخذ دور المُهاجم الذي لا يرى ذاته المعنوية إلّا بممارسة الظلم، ليس على نظام استبدادي دموي يحاول سحق جميع السوريين، بل على من كانوا وما يزالون الضحايا الحقيقيين للإرهاب الأسدي والداعشي معًا. بالتأكيد لا يفضل هذا الحزب أن يُقال له: إن مدينة منبج التي تسعى إلى قتل سكانها وتدمير بناها التحتية بحجة محاربة (داعش)، هي ذاتها التي حاربت هذا التنظيم عندما كنتَ تقف متفرجًا أو متربصًا من بعيد، وهي ذاتها التي احتضنتك بعد تحريرها، من خلال وجود أحد كياناتك (بيت الشعب) فيها، ولم تلق من سكانها وقواها الثورية العسكرية والمدنية التي كانت تُسيطر سيطرة تامة على المدينة، إلا كل ترحيب واحترام، وفي آذار/ مارس 2013، عندما أقمت احتفالية كبرى بعيد النيروز، جاءتك معظم فعاليات المدينة الثورية مباركة ومشاركةً معك أفراحك، علمًا أن الجميع كان يعلم تمامًا موقفك السياسي المُباين، ليس لأهداف الثورة فحسب، بل لأغلب تطلعات القوى الكردية السورية، ولكنّ الأمل كان كبيرًا آنذاك، كما كانت الرغبات جادّة بتجاوز الموات المجتمعي، والانطلاق نحو عتبات الحرية التي تتيح التباين والاختلاف، وتمهد لحوار وطني مصحوبًا بإعادة بناء جسور الثقة بين كل مكوّنات الشعب السوري، من أجل بناء دولة توازي تضحيات السوريين.

 

اليوم وبعد أن تمكّنت ميليشيا “قوات سوريا الديمقراطية”، مدعومة من التحالف، ببسط سيطرتها على مدينة منبج بكاملها، وبعد أن قضى أكثر من 800 ضحية من السكان المدنيين في المدينة، وبعد تدمير أهم مرافقها الحيوية، يتكلل مشروع مكافحة الإرهاب (الداعشي) بإصدار قرار يقضي بحل المجلس المحلي للمدينة، وتشكيل مجلس جديد على مقاس الوافدين الجدد، ليكون هذا المجلس الجديد تابعًا للإدارة الذاتية الكردية، ولتكون مدينة منبج تابعة رسميًا لمنطقة الجزيرة السورية (روج آفا)، وفقًا لتسميات حزب الاتحاد الديمقراطي، موازاة مع منع قسم كبير من السكان المُهجّرين من العودة إلى بيوتهم وقراهم، تحت ذرائع مختلفة، لعل أبرزها اتهام أي مواطن بأنه كان نصيرًا أو مواليًا لـ (داعش)، وليكون -أيضًا- الاسم المتداول لمنبج عبر القنوات الكردية هو (مابوك).

 

يمارس تنظيم الدولة (داعش) إرهابًا حقيقيًا على البشر، من خلال إجبارهم على الامتثال لأوامرها ومعتقداتها “الجهنمية”، وتتخذ من المواطنين المدنيين دروعًا بشرية، وفي الوقت ذاته تدَّعي حمايتهم والدفاع عنهم، وطيران التحالف الدولي، بالتنسيق مع ميليشيا “قوات سورية الديمقراطية”، يقتل المدنيين في بيوتهم ومزارعهم ومحلاتهم التجارية، ويقوم بتهجيرهم وطردهم من ديارهم بحجة “تحريرهم” من (داعش).

جهتان تتقاتلان، وتحملان أجندتين بعيدتين عن فضاء الثورة السورية، ولكن القاسم المشترك بينهما أن ضحيتهما معًا هي السكان المدنيون في منبج، ومادام الموت أو الاجتثاث، وليس سواه، هو المُنجز الفعلي للطرفين كليهما، فأين يكمن الإرهاب؟

الوسوم

مقالات ذات صلة

إغلاق