إيران “الإسلامية”، ومنذ نجاح “ثورتها”، والغدر بالتيارات اليسارية والليبرالية، وهروب الرئيس أبو الحسن بني صدر من قتل محتّم، أصبحت مهمتها تصدير الثورة، أي: خلق المليشيات الطائفية ودعمها، وقد عزز فشلها في الحرب مع العراق، أواخر الثمانينيات، ضرورة تطييف الدواخل العربية، وتدمير العراق وسورية والسعودية ومصر إن أمكن، وهذا غير ممكن دون العودة إلى أدوار الشاه مجددًا.
إيران وبعكس أيديولوجيا تكفير الإمبرياليات التي تتبناها، تحالفت مع أميركا في أفغانستان، ولم تُنقذها من أي مشكلة، بل صارت أفغانستان بلدًا في حربٍ مفتوحةٍ، وفي العراق والآن في سورية، وتمّ السكوت عن مشروعها في لبنان، نقصد تشكيل حزب الله؛ فقد كان الهدف منه الإجهاز على المقاومة الوطنية، ومحاصرة اليسار الفلسطيني واللبناني وتخويف إسرائيل من أي مطامع فيه، فحزب الله سيرد في خاصرتها فورًا؛ طبعًا لدى إيران أذرع قديمة في البلدان العربية التي فيها شيعة؛ وتحديدًا مع من قَبِلَ التبعية لها، والانصياع لنهج ولاية الفقيه، وكثير من الشيعة العرب رفضوا ذلك.
مشروع التشيّع من غير الشيعة فشل، ولنقل ظل محدودًا، واقتصرت علاقات إيران السياسية القوية على عُمان والنظام السوري، الشعبية المتزايدة لإيران والتشييع في أوساط فئات المذهب العلوي في سورية مرتبط بالسياسة، وليس بقناعات بالتشيع الإيراني، وهو سينتهي حالما تتوقف الحرب المفتوحة في سورية، وتعود العلاقات مع إيران إلى مستوى الندّية، وحينها ستُحاصر نزاعاتها الطائفية والهيمنية؛ مع التدخل الأميركي في العراق، وكان بتوافقٍ مع إيران وأحزابها العراقية الشيعية وآخرين، تشكل واقعًا جديدًا، اسمه التنسيق مع الإمبريالية الأميركية وخدمتها، وبذلك طرحت نفسها شرطيًا للمنطقة مجددًا، مستعيدة دورها الإقليمي الشاهنشاهي؛ هذه ممكنات النظام الإيراني ولا شيء أخر. إن التحكم الإيراني بالعراق مرتبطٌ ليس بقوة إيران الإقليمية والطائفية، بل بالإستراتيجية الأميركية، والتي تنتقل للمحيط الهادئ، وتمكّن دولًا عديدة في المنطقة، لتدير شؤونها، وقد سمحت أميركيا لروسيا بأن يصبح لها دور إقليمي، وهذا حتمًا سيحدّ من الدور الإقليمي لإيران.
المشروع الطائفي الذي صدّرته إيران إلى الدول العربية فشل في تأسيس دول تابعة لها، وظلّت التبعية لإيران محصورة في الأحزاب التي دعمتها من قبل، وما تزال؛ فحزب الله، وعلى الرغم من تعطيله الدولة اللبنانية، لم يستطع جعلها تابعة لإيران، ولن يتمكن بسبب الطائفية السياسية والدعم الإقليمي والدولي لقوى هذه الطائفة. وكذالك الأحزاب الطائفية الشيعية في العراق، لم تستطع تحويل هذا البلد إلى تابعٍ لإيران، والمظاهرات التي تتكرر أسبوعيًا، تخرج في مناطق أغلبيتها شيعية، وتردّد دون توقف “إيران برا برا”. المشروع الطائفي الإيراني في العراق هو المسؤول الأساسي عن عدم تشكّل دولة، تُمثّل كل العراقيين بعد الاحتلال الأمريكي عام 2003، وكذلك عدم احتواء الأكراد أو السنة، ولا أغلبية مدن العراق الشيعية، فهي تتظاهر كما قلنا.
المهم -هنا- أن مشروع إيران للعراق ولكل الدول العربية، مشروع وحيد، وهو المشروع الطائفي التفتيتي، أي مشروع الحرب الأهلية المستمرة. الأمر عينه تكرّر في اليمن؛ فالحوثيون انفصلوا عن بقية اليمنيين والتحقوا بالمشروع الإيراني، ووجدوا في علي عبد الله صالح، المخلوع من الحكم، حليفًا موثوقًا، وهذا كان السبب المركزي في حربهم على اليمن، وتهديد الدواخل الخليجية، وهذا ما أدخل هذا البلد غير السعيد بمشكلات بينيّة كبيرة، وتم نسف الثورة اليمنية بذلك؛ فالحوثيون لم يكونوا ليستطيعوا ذلك لولا الدعم الإيراني، وهذا سبّب تدخلًا سعوديًا؛ القصد -هنا- أن إيران استخدمت سلاح الطائفية (المدعوم مالًا وسلاحًا ومستشارين إيرانيين)؛ لتفتيت الدواخل العربية، وإذا كان الفشل يلاحق سلاحها -هذا- في الدول العربية برمتها، فإن نهايته الكاملة مرتبطة بتغيّر عربي كبير، في إطار النظام السياسي والديمقراطية وتفكيك الطائفية بكل أشكالها، وإنصاف المذاهب الدينية كافة، عدا عن التصدي للمشكلات الاقتصادية، ووجود فرص عمل لملايين العاطلين عن العمل؛ وهذا سيؤسس لبلادٍ عربية قادرة على مواجهة، ليس إيران فحسب، بل كافة المشاريع الخارجية أيضًا، ومنها الإسرائيلي والتركي، واللذان يكملان مشروع إيران في فرض هيمنة إقليمية على البلاد العربية.
تركيا، وخوفًا من توسيع العزلة الدولية عليها، سارعت إلى إعادة الصلات مع إسرائيل وروسيا، ولا سيما أنّها وثّقت علاقتها مع السعودية والخليج، ويأتي في هذا الإطار التخفيف من مواقفها “النارية” ضد النظام المصري، وكذلك التخفيف من التنسيق مع حركات الإخوان المسلمين، وهذا سيفتح المجال نحو حلف جديد، ستكون تركيا وروسيا وإسرائيل مداميكه الأساسية، ويضاف إليه بالتأكيد المملكة السعودية، وفي هذا أيضًا ستتضرر إيران، فإيران أصبح لها مشروعات إقليمية في غياب دور أميركي، ومحاصرة الترك؛ عودة تركيا ستساهم فورًا في تحجيم إيران، وهذا ما بدأ يظهر من خلال التباعد الروسي الإيراني والتشدد الإسرائيلي ضد كل ما هو إيراني في سورية ولبنان، إسرائيل والسعودية تتفقان في ضرورة إبعاد إيران عن سورية.
لم تكتف إيران بالتنسيق مع الإمبريالية الأميركية بدءًا من الحرب على أفغانستان والعراق، وراحت تنسق مع الإمبريالية الروسية قبل، وبعد، تدخل الأخيرة في سورية، والذي جاء بطلبٍ إيراني! روسيا تحاول استعادة دور الاتحاد السوفياتي عالميًا، وتستغل من أجل ذلك ضعف النظام السوري، وفشل إيران في سحق الثورة السورية لأربع سنوات متتالية، فالتدخل الروسي بدأ في أيلول الماضي؛ فتحولت إيران إلى أرجلٍ لروسيا في سورية؛ الأمر عينه يتكرّر في العراق، ففي كثير من المعارك ضد داعش، كان لا بد من التدخل الأميركي لحسم المعارك.
إيران وأذرعها تتحول -بذلك- إلى جيوش لصالح أميركا وروسيا. ملاحظتنا الأخيرة، ربما سيجد القراء صعوبة في “هضمها”، وفعلًا ما تزال إيران لديها سياساتها الإقليمية، ولكن، ومن ناحية ثانية، المنطقة لا تحتمل مشروعًا إيرانيًا، كما أنها لا تحتمل مشروعًا تركيًا، أي لا “التشيع ولا التسنن”، ومن هنا، وجدنا “تكليفًا” أميركيًا لإدارة شؤون المنطقة لروسيا، عبر التنسيق بين الدولتين، وبما يخدم الإستراتيجية الأميركية في مواجهة العملاق الصيني.
.
التعقيدات المانعة لهيمنة إيران في العراق وسورية ولبنان واليمن، إضافة إلى المشكلات السياسية التي تواجه النظام الإيراني داخليًا، وكذلك مشكلة العلاقة مع القوميات، ولا سيما العرب والكرد، علاوة على وصول إيران إلى أزمات اقتصادية كبيرة، وضعف الانفراج بعد الاتفاق النووي، نقول: إن كل هذه المشكلات وغيرها، هي ما دفع إيران لتكون أداة للإمبرياليات، ورافق ذلك التخفيف من شعارات الشيطان الأكبر والموت لأميركا وإسرائيل، ومن هذه البضاعة منتهية الصلاحية، والخاصة بالحرس الثوري ومؤسساته، والمستفيدين منه كما يبدو، وأيضًا، لا يمكن لمشروعات الحرس الثوري الجديد في العراق أن تنقذ إيران من أزماتها؛ مشكلة إيران أن مشروعها الطائفي هذا يتصادم مع العرب بشكل رئيس، وبشكلٍ جزئي مع تركيا وإسرائيل، وكذلك يتصادم مع الإمبريالية الروسية (بشكل نسبي)، والتي تسعى لتعبئة الفراغ الناتج عن الانسحاب الأميركي، وهذا يتم عبر تنسيق أميركي روسي على مستوى العالم، هذا خارجيًا، ولديها مشكلات اقتصادية واجتماعية وثقافية وطائفية داخلية ومتأزمة.
إيران محكومة من المرشد خامنائي، وبدعم من الحرس الثوري، وتغطيةً على فساده ومليارات الدولارات التي نهبها، هو وأولاده، كما تنشر التقارير الصحفية، وباستمرار ضعف الاتجاه الإصلاحي لرفسنجاني، ولا يغير في ذلك وجود روحاني في قيادة البلاد، ولا هيمنة الجناح الإصلاحي على مجلس الخبراء، فهيمنة المرشد الأعلى والحرس الثوري على الدولة الإيرانية، تؤزم الوضع الداخلي، وإذا ما أضفنا أن الأموال لم تتدفق إليها بعد الاتفاق النووي، كما كان متوقعًا، فإن ذلك يستدعي تصدير أزمات الداخل، والاستمرار بتطييف الدواخل العربية وإشغالها بحروب عدمية.
إيران شريكة وأداة للإمبرياليات في تخريب الثورات العربية، وتحويلها إلى مقتلة للشعوب العربية، ولمنع الثورات من التمدّد إلى دول أخرى وإلى إيران ذاتها؛ وقوف إيران إلى جانب الأنظمة هدفه ليس إنقاذ أنظمة تابعة لها فحسب، أو دفع حركات طائفية لتخريب الدواخل العربية، بل وكذلك إبعاد شبح الثورة عن شعبها.
إذًا، الحلف الجديد بين تركيا وروسيا وإسرائيل والسعودية، وبما يتوافق مع الإستراتيجية الأميركية يقلل من دور إيران في المنطقة، وهذا ما عليها أن تفعله في المرحلة المقبلة، فهل تنجح إيران في تخطي الأزمة هذه، كما حاولت تركيا، والتي تسارع؛ لتتحرك مجددًا في إطار الإستراتيجية الأميركية، وبعيدًا عن مشروعات الأسلمة والعثمنة ومصادرة الثورات العربية عبر الإخوان المسلمين.
إيران مطالبة بالتغيير، وإلا فإن رياح التفكك ستجتاحها، أزماتها كفيلة بذلك، فكيف إن كانت هناك مشروعات إمبريالية لتفكيكها؟! الفكرة الأخيرة ما زالت تُناقش في أوساط محدودة، ولكنها مطروحة؛ للتفعيل كما أوضحت أعلاه.