السياسة في عصر الثورة محرقة، بكل بساطة الثورات لا تحتمل الأيديولوجيا، الثورات لها أهداف وتسير إلى أهدافها، دون الالتفات إلى مرجعيات، فمن الغباء السياسي طرح المشاريع السياسية والأيديولوجيات وقت الثورات، ومن يبتعد عن الأضواء الآن، ويعمل لوجه الله، ولمصلحة الثورة، وانتصارًا لدم الشهداء، سوف تسلّط عليه الأضواء، دون أن يقول ها أنا ذا، فالأنا المتضخمة لدى سياسيينا ستعيق الثورة وتزيد الدماء.
إن الرجل الرشيد -في هذه المرحلة الحاسمة- من يبحث عن الشرعية الثورية، ومن أراد أن يكون سياسيًا حقًا عليه ألا يبحث عن المنصب؛ لأن المنصىب من سيبحث عنه لاحقًا.
كان “ماكسميليان روبسبير” أنموذجًا للثوار حين ينحرف بهم الطريق، ويحيدون عن مبادئ الثورة النقية والإنسانية، ليتحولوا إلى سفاحين، ويصبحوا أكثر ديكتاتورية من الحكام الذين ثاروا عليهم، لقد كان محاميًا فرنسيًا شهيرًا معروفًا بمناصرة مبادئ الديمقراطية، واعتناقه مبادئ العقد الاجتماعي التي نادى بها الفيلسوف الفرنسي، جان جاك روسو، لذلك، عندما قامت الثورة الفرنسية عام 1789، تم اختياره نائبًا لرئيس مجلس الطبقات، وفي عام 1792، انتُخب كأول مندوب لباريس إلى المؤتمر الوطني، الذي ألحّ فيه على ضرورة إعدام الملك لويس السادس عشر وعائلته. شيئًا فشيئًا تغير الرجل الذي كان معارضًا لعقوبة الإعدام؛ حتى أنه وصف عمليات الإعدام، التي كان يقوم بها العامة في الشوارع دون محاكمات، والتي كانت تحمل نوعًا من تصفية الحسابات، بأنها تمثل القضاء الشعبي، حتى أصبح يطالب بإعدام كل من عدّهم أعداء للثورة، ثم أصبح أشهر سفاحي الأرض، عندما أعدم ستة آلاف شخص في ستة أسابيع، بمعدل ألف شخص كل أسبوع؛ فقد كان روبسبير يصف نفسه بأنه لم ولن يخطئ.
كانت شخصية روبسبير مزيجًا غريبًا من الريبة السياسية الحادة، والعداء الشخصي لكل من يختلف معه؛ الأمر الذي حمله إلى طريق التفرّد خلال الثورة، إضافة إلى ذلك، هناك صورة أُخرى يرسمها روبسبير عن نفسه -باعتقاده- أنه لم ولن يُخطئ إطلاقًا، يرى نفسه كمصدر للقانون، حاله حال كل الطغاة في التاريخ القديم والحديث.
“الحرب، هي دائمًا الرغبة الأولى لحكومة قوية، تريد أن تصبح أقوى”، هذا ما قاله روبسبير نهاية عام 1791، محاولًا إقناع مريديه السياسيين بأن الحرب التي كانوا يعتزمون خوضها؛ لأجل نشر أفكارهم، سوف تأتي بنتائج معكوسة، وستكون لعبة بيد الملوك الأوروبيين، “إنها حرب أعداء الثورة الفرنسية، ضد الثورة الفرنسية”.
كان التأثير الطويل لمساعي النظام الجديد العسكري، توريط البلاد في مشكلات مميتة، استمرت سنوات طويلة، في أثناء ذلك، كان نابليون قد أخذ زمام الأمور في فرنسا كجنرال، ثم إمبراطور، وترك وراءه بعيدًا مُثل وأهداف الثورة.
حان للسفاح أن يذوق الكأس التي سقى منها خصومه، فقد خشي أعضاء المؤتمر القومي على أنفسهم، فدبروا مؤامرة للتخلص منه، وتحت المقصلة ذاتها التي أعدمت بأمر روبسبير الآلاف؛ لقي هو نفسه المصير ذاته، تحت شعار حتى لا تتحول الثورة إلى عورة.
مثال آخر يجب أن يؤخذ في الحسبان
عندما رفض الضباط المصريون العودة إلى ثكناتهم، بعد أن نجح انقلابهم في خلع الملك فاروق ونفيه، ودفعهم اليسر الذي استطاعوا به القضاء على الملكية إلى الطمع في الحكم، عندها قال محمد نجيب: إنها ليست ثورة بل عورة. وبالفعل تحولت الثورة إلى عورة، عندما آثر الثوار السلطة على مصلحة البلاد.
الخوف الآن من بعض الفئات التي شاركت في الثورة؛ لتحقيق أجنداتها، وتلك التي لم تشارك، ولكنها تحاول القفز على الثورة؛ والاثنتان تمارسان انتهازية سياسية، لا تليق ونقاء الثورة والثوار الأحرار الذين خططوا لها، وأولئك الذين قاموا بها، وإذا كانت الثورة قد نجحت في إزاحة النظام، فإن القادم أخطر، والخطورة تأتي من الشارع الذي عاش في الجب أربعين عامًا وأكثر، وخرج بعدها يتخبط ويصف الجميع بالعمالة والتواطؤ، وهناك مشاهد محددة، تجعلنا ندق ناقوس الخطر منها.
فلا نريد لثورتنا السورية العظيمة أن تتحول إلى عورة. ترفعوا عن الذات، والأنا، والنرجسية، والاختباء خلف الدعوات المشبوهة لحزبيات ومعتقدات ضيقة، أخافت البعيد قبل القريب، ثورتنا ستنتصر؛ فلا تطيلوا عمر النظام عبر خلافاتكم، تابعوا إعلام النظام؛ فتنطبق عليكم المقولة” إذا رأيت عدوك يبتسم فاعلم أنك قد أخطأت… لقد تعمّدت الثورة بالدم والأرواح الطاهرة.. فلا تختموها بفعل يشابه ما حاربتموه.. وانتفضتم ضده.