- كتب محمود رسلان، المصور الذي سجل فيديو الطفل عمران وصوره الفوتوغرافية، بعد القصف الروسي – الأسدي الأخير على حلب: “نحن مصوري الحرب نبكي دائمًا”.
- الصورة التي اجتاحت وسائل الإعلام والتواصل الاجتماعي، بعد دقائق من الحدث، لفتت الأنظار تمامًا مثل صورة إيلان كردي، الفتى الذي ألهم الفنانين التشكيليين وفناني “الديجيتال آرت” حول العالم، وسيل حبر مقالات الكتاب ولعاب المحللين، وملأ ساعات البث الإخبارية بالتقارير، كما حرض سياسات الدول لمزيد من التضييق على الهاربين من الموت في الحدود والقوانين! برسالة مفادها: موتوا بعيدًا وليس على شواطئنا!
- كل شيء صغير جميل ومحبب، من صغار الكركدن حتى جثث الأطفال.
- في صورة إيلان يختفي الوجه، وحدها مؤخرته الصغيرة تواجه العالم. مثل حنظلة الرمز العربي الفلسطيني، إيلان رمز سوري يدير ظهره ويستسلم للموت، الضحية الجميلة الأنيقة، ضحية بلا دماء؛ فكثرة الدماء أصبحت مبتذلة، مثل أفلام الرعب التي لم تعد تخيف أحدًا، هي كذلك هذه الحرب. الأعداد الهائلة من الضحايا مجهولي الأسماء مجرد أرقام، فالكثرة تبعث في النفوس الاعتياد والملل. إيلان كان وحده على الشاطئ مثل صَدَفة، عند خط التقاء الرمال بالأمواج، عند يابسة النجاة ومياه الغرق؛ لذا انتبه النيام لموت إيلان، يا لها من آخرة، يا له من خوف.
- عمران -أيضًا- تُرك وحده مغبرًا معفرًا بالرماد على الكرسي البرتقالي النظيف، تناقض صارخ في لحظة صامته، مواجهًا عين الكاميرا ووقاحة العالم، صورة عمران بلا دموع، فلقد ذرف السوريون الكثير منه، رجال ونساء وأطفال، وكما قلنا الكثرة تبعث على الاعتياد والملل؛ في صورة عمران الذاهلة كبرياء حزين، لا صرخة، لا أنين، لا تكشيرة وجه، لا دمعة. لا تستحقون أبدًا أن تشاهدوا أثر ما تعرض له -منذ لحظات= في نفسه، لأنكم لو رأيتم سترتاحون. الصدمة داخل الصدمة جعلت من عمران مادة دسمة للخوف. عمران يمسح الغبار عن رأسه؛ فإذ به يرى الدم، ولا يريد لأحد أن يراه، فيمسحه سريعا بالكرسي، يتبرأ من الدم على يديه، ومن الحرب البغيضة؛ فانفجرتم بالبكاء أيها العجزة والمتورطون.
- في الصورتين تسليم وقبول لأسئلة الوجود الضخمة المحيرة (القدر والموت)، محمولةً على عاتق طفلين عدد سنوات عمرهما أقل أو بعدد أصابع اليد الواحدة. تخافون أن تكونوا أنتم أو أطفالكم بهذا الموقف؟!
- التعاطف مع الأطفال يرفع قيمة المتعاطف وإنسانيته، لكن حتى صورتي الطفلين لم تسلما من سهام المشككين المسمومة؛ فتطال والد إيلان اتهامات بأنه من زج بطفله في هذه التجربة الخطِرة، ويتساءل الحمقى والمجرمون: هل من المعقول بعد كل ما بذلناه من جهد ألا يبكي عمران؟؟!
- المذيعة الجميلة -التي لا تعرف حقًا من قام بهذا الفعل الشنيع- دمّعت، يا للموقف المؤثر، سيأخذ هذا اليوتيوب ملايين المشاهدات. المصور الشجاع ربما يأخذ جائزة إعلامية، الدفاع المدني البطل ربما يأخذ جائزة نوبل، وربما يتقاسمها بشار الأسد وفلاديمير بوتين لمحاربتهما الإرهاب. الصورة ستلهم التشكيليين وفناني “الديجيتال آرت”. الفيسبوك سيمتلئ بالصد والرد و”اللايكات”، الشعراء وأنصافهم ستتفتح قرائحهم على مفردات مكررة ونواح لغوي، المقالات ستنشر كلها، لمجرد أنها تتحدث عن عمران، التصريحات الإعلامية للغرب ستتكرم بمنح عمران وذويه حق اللجوء. وحده عمران بعد الضجة الإعلامية قد يفقد النطق، أو يتأخر لاستعادة قدرته على الكلام؛ وربما لن يستعيد أمانه وسلامه الشخصي مدى الحياة.
- اضطرابات النوم والأحلام المترعة بمكوّنات الرُعب، السلس البولي الليلي وفقدان حس الفضول والرغبة باللعب، و”المشكلات السلوكية التي نتجت عن التحُّول الكبير والانكسار العميق في نمط الحياة اليومية، علائم الحزن والحداد على فقدان “المجال الحيوي” الذي ترصده لنا البيوت؛ هي بعض أمارات الأزمات النفسية التي يعاني منها الأطفال والمراهقون على حدّ سواء، إلّا أنّ أبرز “مخلّفات” الصّدمات النفسية كانت ترتع في مساحات أخرى من القدرات المتعلّمة “في مراكز الضبط وتجلّيات اللغة!” هكذا يقول جمال صبح المختص النفسي في مقال بعنوان: عن “العبارة التي تضيق، عندما تتسع الصدمة”.
- لم يكن عمران وحده في سيارة الإسعاف، انضمت إليه شقيقته وشقيقه، قالت الفتاة للمصور: لا تصورني. معها حق، فالكادر لا يتسع إلا لجزئية واحدة من المأساة، وإلا فقدت وقعها بحسب المقاييس الدارجة.
- صور المأساة كثيرة، أب يبكي وطفله يمد يده ويمسح رأسه لمواساته، طفلة صغيرة تضم شقيقها الأصغر بأمومة لتحميه، أطفال بلا أحذية يخوضون في الطين بملابس ممزقة في عز البرد، أطفال يلعبون بين الخيام، عشرات جثث الأطفال الملفوفين بالأكفان والثلج، ضحايا القصف بالسلاح الكيماوي؛ لا يثيرون تعاطفًا كصورة طفل واحد. نحن جميعا لم نعد نستوعب أكثر من إطار وكادر محدد، وعليك أن تكون مميزًا؛ لتثير كل هذا الضجيج، كأن لا تبكي مثلًا.
- لماذا لم تبك يا عمران وتخلصنا من هذه القصة؟؟