الأنوار التي شعت من شباب البرجوازية الأوربية، ارتبطت على نحو وثيق بالعمل المنتج، وحركة إنتاج مذهلة ومتسارعة، شملت جميع مناحي الحياة الاقتصادية والفكرية والثقافية والقانونية، وبدت الأفكار أيضًا تحمل النور نفسه، ولكن عند صعود التناقضات مجددًا إلى السطح، بفعل تأزم الرأسمال عينه في علاقته مع كل ما سلف، وبفعل تطور العلوم بوتيرة متسارعة وذات صدقية أعلى من تطور القوانين؛ برزت الأزمات الكبرى في العصر الحديث، لتنتهي بحربيين عالميتين، والتي لا يمكن توصيفهما سوى بالجرائم الكبرى التي ارتُكبت بحق الإنسانية جمعاء.
بعد ذلك، نهض رأسمال أكثر شبابًا، لكنه استثمار كسول للمال، وبرزت شركات عملاقة ليس لها وجود على الأرض، وأصبح نشاط رأس المال مرتبطًا بالمال نفسه؛ ما أدى إلى ركود مخيف، هز أركان العالم المتقدم، ونهضت أزمات أكثر شراسة؛ لفتح الطريق أمام سيطرة الافتراض على الواقع خدمةً لرأس المال، نهضت الأزمات المعاصرة من قصور الاستثمار الافتراضي عن تحقيق التوازن المطلوب في العالم، وكان لا بد من العودة إلى الأرض، إلى المصانع العملاقة التي تنتج السلاح والسيارات والأغذية المعلبة والهواتف النقالة والتكنولوجيا برمتها.
إن حجم الإنتاج العالمي من الأسلحة، يحتاج إلى عشرة كواكب تشبه الأرض، تطحنها الحروب، كي تنفذ منتجاتها، متسارعة التشكل، وبغزارة قل نظيرها؛ لذلك كان لا بد من الترويج لنوع جديد من النشاط، من التجارة التي توفر البيئة الملائمة لخلق العوائد، إنها التجارة الأحدث والأوسع انتشارًا في العالم، تجارة العقائد.
وكان لا بد من خلق المساحة الافتراضية، المسيطرة كليًا -وبشكل ساحق- على وعي الإنسان المعاصر، إنها مساحة الإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي والصحافة والفلسفة والفنون…إلخ. لم يكن الإنسان -في شتى الأصقاع- مهددًا في كيانه ووجوده، وبشكل علني وسافر، كما هو اليوم؛ ذلك بفضل الإكسير السحري لتجارة العقائد، إنها الجوهر الذي تقوم عليه الليبرالية الجديدة، والتي تقوم على خدمتها منظومات وشركات إعلامية كبرى، إنها ثورة جديدة في عالم الاستثمار، رافقت وتقدمت على رفيقاتها، كالثورة الرقمية والاتصالات، بل سخرتهما لخدمتها.
قبل الربيع العربي، نهضت مؤسسات كبرى في الإعلام والصحافة، وصعد مفكرون هامشيون ليتصدروا “حراكات” الشعوب، والسمة الأبرز في هذا، هي سرعة تهافت الأصوات الفكرية والفلسفية والمعرفية والسياسية تلك، ليقتصر دورها على الخطاب الانفعالي والتحريض، والتجييش الذي لا يعتمد على فكر مناقض للفكر السائد، بل يكاد يماثله في الجوهر والأدوات، ولينتهي هذا التجييش والتحشيد في حظائر المذاهب والانتماءات الناهضة من حضيض الاستبداد، في ظل غياب الخطاب الفكري والسياسي، المعبر عن مصالح وتطلعات الأفراد والشعوب العربية المقهورة، ثم لتصبح تلك الأصوات ظواهر إعلامية خدمية، لها دور محدد في إعادة تشكيل الأفكار والحقائق، وتفصيلها على مقاس الأم الشرعية للإعلام العربي المعاصر، تجارة العقائد.
اذ لا تبرأ وسيلة إعلامية أو صحيفة أو “مفكر ثوري”، أو أجندة جهاز مخابرات في العالم، أو كتاب جديد في الفكر أو الفن والأدب، من روائح استثمار عقائدي مكشوف أو مكتوم، وسوف تقرأ خلف السطور وشمًا طائفيًا أو مذهبيًا أو اثنيًا أو عقائديًا، أو مرتبطًا بمافيات الأنظمة الدينية والوكيلة، وتتحول بلدان المنطقة إلى ساحة عملياتية سريعة التجاوب وحيوية.! ويصبح البشر في هذه البلدان بضاعة جاهزة للتفخيخ والتفجير والقتل والحرق والذبح والتشريد، هكذا تمهد تجارة العقائد البلدان المولودة حديثًا، سادّة الطريق أمام حراكاتها ومخاضاتها؛ كي تكون مجرد ساحات تُنعش الاقتصاد العالمي بتسارع وشراسة، تشبه حركة الإنتاج في مصانع سلاحه وسياراته وتقنياته.
لذلك كان لا بد من إعادة صياغة المفاهيم الأم للديمقراطية المعاصرة، كي تنسجم مع صمتها -المروع- عن المؤسسات التي تمخضت عن الحربين العالميتين، وهي الأمم المتحدة ومستتبعاتها؛ صمتًا يجعلها الآن تتماشى بشكل مخز مع كل ما يحدث، ويبدو الأفراد في العالم المتحضر، أفرادًا معزولين، لديهم الحرية في أن يكونوا ما يشاؤون كأفراد، لكن لا خيار أمامهم إلا قبول هذا الخزي، وربما من الممكن التطهر من العار، عبر مظاهرات التنزه في شوارع أوروبا!
إن الإنسان العربي لا ينتمي إلى مذاهبه وطوائفه، بل يخافها منذ زمن بعيد، وهو أكثر تسامحًا ومحبة وتعاونًا، لكنه محكوم بتجار العقائد الجدد ووكلائهم، بينما ينبري مفكرو الثورات والربيع العربي، إلى تأسيس الخطاب الجديد لتجارة العقائد، وينهمكون في هذا حتى أخمص أقلامهم.
إن الثورات المسلحة في العالم العربي لم تستطع نزع روائح تجارة العقائد من كياناتها، وهي بهذا تساهم؛ بل تشارك الاستبداد في إجهاض حراكات الشعوب المقهورة، ووأد حلمها بالتغيير والاندماج في المجتمع الإنساني المنهك، وربما يكون هذا الاندماج لو تحقق، هو الرافعة الأهم لنهوضه من جديد.