تحقيقات وتقارير سياسية

حسان عباس: بنية المجتمع السوري لا تسمح باستمرار وجود “أمراء حرب”

عرفت سورية في العقود الخمسة الأخيرة شكلًا فريدًا من أشكال الاستبداد، غُيّبت خلاله فكرة المواطنة عن الممارسة في الحياتين السياسية والاجتماعية؛ ما دفع بعدد من المثقفين السوريين على بعث “الرابطة السورية للمواطنة”، انطلاقًا من أن المواطنة أصبحت، أكثر من أي وقت مضى، مفهومًا جوهريًا لبناء سورية وطنًا لكل مواطنيه. ويعد د. حسان عباس من الوجوه الثقافية المعروفة في الحركة الثقافية والمدنية في سورية، وكان قد لعب دورًا بارزًا في ما سمي بمنتديات (ربيع دمشق). كما شارك في تأسيس “جمعية حقوق الإنسان في سورية”، والعديد من الجمعيات الأخرى المهتمة بقضايا المواطنة، وآخرها “الرابطة السورية للمواطنة” التي يرأسها حاليًا.

 

كان لصحيفة (جيرون) معه الحوار التالي، حول “الرابطة”، ودورها في الراهن السوري، بعد خمس سنوات ونيف من انطلاقة الثورة السورية.

 

بدأ عباس، رئيس “الرابطة السورية للمواطنة”، بتعريف وبمن تمثّل، وقال: “مع انطلاقة انتفاضة الكرامة، ظهرت، بشكل ملحٍّ، أهمية تملّك الشباب المشارك في المظاهرات السلمية ثقافة المواطنة. وثمّة أمران أكدّا هذه الأهمية: الأول هو أن المصطلح صار، بين عشية وضحاها، مصطلحًا تحشيديًا، تتناقله الأدبيات المؤيدة للانتفاضة، دون أن تبيّن دلالته العلمية، ودون أن توضّح ما مبادئ المواطنة وما قيمها. أما الثاني، فهو أن النظام قد عمل، منذ الأيام الأولى، على تقويض البعد المواطني للانتفاضة من خلال تطييفها أولًا (خطاب بثينة شعبان في 26 آذار/ مارس 2011)، ومن خلال دفعها -بالقوة- نحو العسكرة (استخدام العنف بشكل مبكر ومتسارع) ثانيًا.

 

وأمام هذا الواقع استشعرنا، مع بعض الصديقات والأصدقاء، ضرورة العمل بسرعة على نشر ثقافة المواطنة، فنظمنا عددًا من اللقاءات مع مجموعات من الشباب، تناولنا فيها قضايا ملحّة، مثل: مبادئ المواطنة، الدستور، المساواة الجندرية ودور المرأة في الانتفاضة، خطر الطائفية، اللا عنف، تاريخ سورية السياسي الحديث، إلخ، ثم ارتأينا أن نعمل على إنشاء جسم مدني، يعمل بشكل منظم ومنهجي على مسائل المواطنة؛ فكانت (الرابطة السورية للمواطنة) التي تم إعلانها في كانون الأول/ ديسمبر 2011″، وأضاف:  “لا تدّعي الرابطة تمثيل أشخاص بعينهم، أو مجموعات محددة؛ فهي (جسم مدني) مفتوح أمام كل من يرغب في العمل من أجل تحقيق المواطنة في سورية؛ لهذا السبب لا تعتمد الرابطة مبدأ الانتساب، ولا بطاقة عضوية، ولا رسوم انتساب، ولا هيكلية تراتبية.

 

الرابطة (وهذا ما يفسر اسمها) تربط بين المواطنين السوريين الفاعلين من أجل المواطنة، وهذا الربط يكون من خلال العمل في البرامج والمشروعات القائمة. تطرح الرابطة، أو تستقبل، برامج عديدة، وكل برنامج يضمّ عددًا من المشروعات، يعمل بها مواطنون مقتنعون بأن المواطنة هي الحل الأمثل؛ لما يعترض الوطن السوري من تصدّعات. ربما أمكننا القول إن هؤلاء هم من تمثلهم الرابطة”.

 

وبسؤاله عن أهم الأهداف التي تسعى الرابطة إلى تحقيقها، بعد أكثر من خمس سنوات من هذه المقتلة الكبرى التي نعيش فصولها، أجاب: “الهدف الأساس للرابطة هو نشر ثقافة المواطنة وترسيخها في الحياة اليومية للمواطن، أي: في مجمل العلاقات التي تربطه مع الدولة (مؤسسات)، والمجتمع (المواطنين الآخرين)، والمكان (فضاء العيش المشترك)؛ لكن في الطريق نحو هذا الهدف تخلق المقتلة أوضاعًا طارئة، تضطرنا إلى وضع أهداف عاجلة، مساعدة اللاجئين أو الحفاظ على الذاكرة الجمعية، وعلى التراث الثقافي على سبيل المثال؛ ما يضطرنا لوضع برامج جديدة لا تتعارض مع الهدف الأساسي العام، وإن بدا أنها تحيد عنه”.

 

المواطنة هي الحل

ترفع الرابطة شعار “المواطنة هي الحل”، وهنا نسأل: كيف السبيل إلى ذلك الراهن السوري، وقد تحولت البلاد اليوم إلى ما يشبه (الإقطاعات المسلحة)، وباتت بين استبدادين: سياسي وآخر ديني؟ فيجيب مُحاورنا: “إن ما آلت إليه الأوضاع في سورية يعزز، وأكثر من أي وقت مضى، صحة مقولة (المواطنة هي الحل).

 

فمن جهة أولى، تعني المواطنة مشاركة المواطنين في إدارة شؤون حياتهم، والمساواة في ما بينهم في القانون وأمام القانون، والحرية في وضع العقد الاجتماعي الذي يلائمهم، وتحمل مسؤولياتهم في ما يرتضونه من خيارات؛ وهذا ما يعني -في العمق- نفي الاستبداد بشكليه المطروحين أمامنا، وفي أي شكل آخر. ومن جهة ثانية، تعني المواطنة في صلبها منع التمايزات التي يتّصف بها المواطنون، سواء أكانت تمايزات أوليّة/ طبيعية (الجنس، المذهب، الدين، الطائفة، الإتنية، المنبت…) أم تمايزات مُكتسبَة أالإيديولوجيا، التحصيل العلمي، الثروة، الوجاهة…إلخ) من التأثير على مواطنية المواطن؛ وبالتالي، منع “أبطال” الأمر الواقع من مسلحين وقطاع طرق وشبيحة، من التحكم بإدارة الوطن وبمصائر المواطنين”، وتابع: “صحيح أن الأمر ليس باليسير، وأظن أن لا أحد من السذاجة حتى أن يعتقد أن أمراء الإقطاعات المسلحة، سيتنازلون عن إقطاعاتهم ومكاسبهم لصالح حالٍ، يفترض عدم وجود سلطتهم، لكننا نعتقد أن بنية المجتمع السوري لا تسمح باستمرار حال المقاطعاتية، وأن لدى المواطنين ما يكفي من الوعي والتنبه إلى عدم ترك الأوطان في أيدي أمراء الحرب أولئك. بيد أنه لا بد -قبل ذلك- من محاسبة المسؤولين، من كل الأطراف، عن وصول البلاد إلى هذه الأوضاع، عن طريق تطبيق عدالة انتقالية منسجمة مع واقع سورية، ومع مصالحها العليا”.

 

تشاركية، حرية، مساواة، مسؤولية

صدر عن (الرابطة السورية للمواطنة) أخيرًا، بالتعاون مع دار (بيت المواطن)، وبدعم من مؤسسة (Hivos) الهولندية، القسم النظري من (دليل المواطنة)، والذي قام بإعداده فريق من الباحثين، كان ضيفنا واحدًا منهم؛ ما يدعونا إلى سؤاله عن فحواه؟ ولمن موجه؟ وما الغاية من إصدار دليل كهذا الآن؟ فأجاب: “كما سبق وذكرت، واجهتنا منذ البداية معضلة غياب الدقة في التعامل مع مفهوم المواطنة وضبابية المصطلح؛ فكان لزامًا علينا العمل بشكل جدي، لضبط الدلالة المصطلحية، ولتعيين العناصر التي ينهض عليها المفهوم، أي: حاولنا أن نحلل ونبيّن ماذا تعني المواطنة عندما نتحدث عنها، معتمدين -بذلك- على مرجعيات أكاديمية محكّمة، وعلى محصلة نقاشاتنا مع أكثر من مئتي ناشط سوري، شاركوا في ورشاتنا التدريبية حول المواطنة وقضاياها”.

 

مشيرًا إلى أن الدليل “يتكوّن من جزأين، صدر الجزء الأول، وهو القسم النظري، وأنهينا العمل على الجزء الثاني، وهو القسم العملي الذي سنقوم بإصداره قريبًا، بعد إخضاع مواده للاختبار العملي؛ لتلافي ما قد نلقاه، أو يلقاه المتعاملون معه، من هنات وثغرات فيه”. موضحًا أن الدليل بجزئه الأول “يشرح بشكل أساسي معنى المواطنة، والمبادئ التي تقوم عليها وهي أربعة مبادئ أساسية: التشاركية، الحرية، المساواة، المسؤولية. ثم يعرض لأربع قيم من قيم المواطنة وهي: الكياسة، والتضامن، والوعي المدني والإنسانية. وبعد ذلك يستعرض بعض القضايا المرتبطة بالمواطنة: الجندر، العلمانية، الديمقراطية، حقوق الإنسان، التعليم، التنمية المستدامة، المجتمع المدني، الثقافة.

 

بأسلوب مكثف لكنه واضح يتلاءم مع الآليات المتبعة في ورش التمكين، وقد عملنا على الدليل لسنتين -تقريبًا- قبل اعتماد نصوصه، وأصدرناه مطلع شهر نيسان/ أبريل الماضي. ثم وضعناه على موقع الرابطة؛ ليبقى متاحًا لمن يرغب، مساهمةً منا في عملية نشر ثقافة المواطنة على أوسع نطاق ممكن”. ويبين مُحاورنا أنه “ليس في توقيت إصدار الدليل (الآن) أيّ دلالة خاصة، فالدليل أداة مساعدةٌ ومفيدةٌ، لفهم المواطنة وبعض قضاياها، في أي زمان ومكان.

 

لذلك كان لا بد من الحفاظ على برودة النصوص، وحيادية الموقف (مع العلم أن المواطنة ليست، بأي شكل من الأشكال، حيادية تجاه الاستبداد، وكل شكل من أشكال التمييز والطغيان). لكن، ربما يكون إصدار الدليل الآن، قد جاء في وقت ملائم؛ لتعاظم الحاجة إلى فهم المواطنة، ولترسيخ ثقافتها لدى عموم المواطنين السوريين”.

 

شهادات إنسانية عن سنوات النار..

في نهاية حوارنا مع د. حسان عباس، كانت لنا وقفة للحديث عن كتابه الأخير (لا تغمض عينيك!)، الصادر أخيرًا ضمن سلسلة (شهادات سورية – العدد 17)، التي تصدرها الرابطة؛ فقدمه لنا بالقول “تمثل سلسلة (شهادات سورية) واحدة من محاور ثلاثة، تلتزم بها دار (بيت المواطن) للنشر (والدار، بالمناسبة، مشروع من مشروعات برنامج “المعرفة” في الرابطة)، والمحوران الآخران هما: (التربية المدنية) و(المواطنة)؛ وفي هذا المحور، يتم نشر كتابات تنوس بين الأدب والفكر، حول الحياة السورية في سنوات النار، أي: منذ قيام الانتفاضة وتحولها إلى ثورة، انتهاء بالأوضاع الحالية، وقد قدمت في كتاب (لا تغمض عينيك!) شهادتي الخاصة في هذا المضمار، واخترت له عنوان واحدة من المقالات التي يتضمنها، والتي كتبتها إثر مذبحة قرية البيضا، التي أقدم عليها النظام في منتصف أيار 2013، وفيها أستحث القارئ، والعالم المطعون في إنسانيته، أن يفتح عينيه واسعتين أمام المجزرة التي تحل بسورية وشعبها”. ويختم رئيس الرابطة السورية للمواطنة حواره معنا بالتأكيد على أن “سلسلة الشهادات لبنة، برأينا، في بناء الذاكرة الجمعية للسوريين غدًا، بعد أن تنتهي المقتلة، وبعد أن يبني الجيل المقبل سوريته الجديدة، في ذلك الغد سيعود السوريون إلى قراءة هذه النصوص؛ فتذكرهم بهذه المرحلة القاتمة من تاريخ بلدهم، وتقرع رؤوسهم بـ: لا تفعلوا هذا مرة ثانية”.

 

يُشار إلى أن د. حسان عباس من مواليد مصياف عام 1955، حاصل على شهادة دكتوراه في النقد الأدبي من جامعة السوربون، ويعمل باحثًا وأستاذًا في (المعهد الفرنسي للشرق الأدنى في دمشق)، وعمل لسنوات عدة أستاذًا للنقد الأدبي في المعهد العالي للفنون المسرحية – دمشق، إلى أن مُنع منذ العام 2001، من التعليم في الجامعات السورية. كما مُنع مرارًا من مغادرة سورية؛ بسبب مواقفه السياسية.

أسّس، وأشرف على عدد كبير من الفعاليات الثقافية، الموجهة بشكل خاص إلى الشباب (نواد سينمائية، مقاه أدبية، منتديات ثقافية).

الوسوم

مقالات ذات صلة

إغلاق