قضايا المجتمع

القامشلي: فقدان الأدوية العصبيَّة كارثة وفائدة

ساهم شحّ الأدوية الحاصل في سورية، منذ بدء الثورة، في إخماد ظاهرة كانت منتشرة في البلاد، ألا وهي ظاهرة تعاطي الحبوب المهدِّئة على اختلاف أنواعها، وبطرق غير طبيَّة، فنقص الأدوية أثّر سلبًا -بشكل كبير- على الوضع الصحي لكل السوريين، لكنه، وللمفارقة الساخرة، فإن شحّ الأدوية كانت له فائدة لمن ينظر إلى الأمر من منظور آخر؛ ففقدان معظم الأدوية التي كانت تُستخدَم لمعالجة الأمراض النفسيَّة، والتي كانت متاحةً لفئة من الشباب المدمن على أنواع كهذه، باتت مفقودة الآن، وإن توافرت، فإنَّها تُعطى بحذر شديد من الهيئات الصحيَّة الموجودة في مدن محافظة الحسكة، والخاضعة لرقابة.

الإدمان وغياب الرقابة

يقول الشابّ أحمد يونس لـ (جيرون): “بسبب الأوضاع الاقتصاديَّة والنفسيَّة التي كنت أمرُّ بها، خلال سنوات ما قبل اندلاع الثورة في مدينة القامشلي، وأحوال العمل القاسية، تعرَّفت مجموعة من الشبَّان الذين يشبهونني، وكنَّا نجلس في إحدى المقاهي المنتشرة في المدينة لنتسامر، هناك تعرَّفنا على نوع من الحبوب المهدئة التي كانت تُستعمَل لعلاج مرض الانفصام (الشيزوفرينيا) عن طريق صيدلانيٍّ، لاحظَ حالتنا آنذاك، وهو من أوقعنا في الفخّ؛ ليبتزَّنا فيما بعد، وحصل نوع من الإدمان على هذه الحبوب التي كانت تدعى علميًا “بنزهكسول”، إذ كانت تهبنا نوعًا من الرَّاحة النفسية، وساهم في إدماننا لها سعرها الرخيص، حيث كان ثمنها 35 ليرة (0.75 دولار)، ومن خلال هذا الدواء كنّا نهرب إلى عالم آخَر”، ويتابع: “أمَّا الآن، وبعد اندلاع الثورة السوريَّة، وظهور الأزمات المتعددة، انقطع الدواء منذ ما يقارب الأعوام الثلاثة، ولم أعد أعثر على العقار في كلّ الصيدليَّات التي كنا نتعامل معها”.

كان بعض أصحاب الصيدليَّات، وخاصةً في مدن وأرياف محافظة الحسكة، البعيدة عن الرقابة الدوائية، يستغلّون حاجة فئة معيَّنة من الشباب المُدمن، ووصل الأمر، في بعض الأحيان، إلى أن يُسهّل عملية بيع الأدوية المحظورة عناصر من الأمن العسكري في أغلب تلك المدن، من خلال غضّ الطرف؛ في محاولة للقضاء على جيل كامل من الشباب بهدوء، ودونما أيّ عنف، لِمَا لهذه الأدوية من تأثيرات على الدماغ وعلى الحالة السلوكيَّة السويَّة.

يقول الصيدلانيّ حسين علي: “كانَ دواء (بنزهكسول) رائجًا في سورية قبل اندلاع الثورة، وكان يوصَف لحالات الاكتئاب الشديد، وكما كل مركَّب كيميائي يمتلك تأثيرات جانبية؛ تؤدي إلى نتائج صحيَّة كارثية على المتعاطي، وهذا الدواء، وغيره من الأدوية النفسيَّة، لم تكن تعطَى إلَّا بوصفة طبيَّة مكتوبة من قِبَل الطبيب النفساني المختص، وكنَّا نتعامل بحذر شديد؛ لأنه من نوع الأدوية التي تسبب إدمانًا، وله نتائج عكسيّة على الصحّة العامّة، إذا ما تمّ استعماله على مدى فترات طويلة، لكن الذي كان يحصل وقتها أنّ فئة كبيرة من الشباب الذين تتراوح أعمارهم ما بين الـ 25 والـ 28 عامًا، استقبل هذا الدواء برحابة صدر، دون تفكير في أذاه، بسبب ما يعطيه من شعور بالنَشوة، ونسيان موقّت للمشكلات، وبسعر متدنٍ، وبعض الصيدلانيين من ضِعاف النّفوس، استغل حاجتهم، فكانوا يبيعون الدواء دون وصفات طبيَّة، مقابل مبلغ كبير من المال، بالمقارنة مع السعر الرخيص لعلبة الدواء تلك”.

فقدان الدواء وتفاقم الأزمة

مع اندلاع الثورة في سورية، والقصف المتواصل على مدينة حلب، التي كانت تُنتج معظم تلك الأنواع من الأدوية، ودمار غالبية معامل الأدوية الكبيرة التي كانت منتشرة هناك، لم يعد لمثل تلكَ الأدوية وجود، بسبب دمار كثير من المعامل، من جهة، وفقدان المادة الكيميائيَّة الداخلة في التركيب الدوائي من جهة ثانية.

يقول محمد علي حسين، وهو أحد الشبَّان الذين أدمنوا على تعاطي الحبوب المهدِّئة: “كنت أتعاطى حبوب من نوع رائج قبل سنوات، وكانت تدعى علميَّا الـ (بالتان)، وهذا النوع من الأدوية الكيميائيَّة كان متوافرًا بكثرة في الصيدليَّات، وبمجرد إعطاء مبلغ إضافي، كنا نحصل عليه من أصحاب بعض الصيدليَّات، دونما الحاجة إلى وصفات طبيَّة، كما هو معتاد، كانت هناك شبكات من الصيادلة الذين يوفرونَ هذه الأنواع من الأدوية”.

وعن أحوال المدمنين على الحبوب المهدئة يقول الطبيب رضوان الموصللي، المختصّ في الأمراض النفسيَّة والعصبيَّة: “هو ليس إدمانًا بالمعنى الحرفي للكلمة، كما هي الحالة مع المخدرات، ففي النهاية، الدواء مركَّب كيميائي للقضاء على مرض بذاته، إنمّا هي حالة اعتياد على ما يُقدّمه هذا المركَّب الدوائي من راحة عميقة، ومن الممكن القضاء على هذا الاعتياد خلال تعاون المُعتاد مع الطبيب المختصّ، وساهم فقدان الدواء، وخاصَّة أدوية الأمراض العصبيَّة؛ نتيجة انعدام المعامل المصنّعة تلك الفئة على التخلّص من الاعتياد، بحكم الانقطاع عن تعاطي الدواء، وصحيح أن هذا الانقطاع الفجائي، قد يتسبِّب بمشكلات جانبية، لكن من الممكن السيطرة عليها بقليل من الهدوء”.

لكن والحال هذه، كان لفقدان هذا النوع من الأدوية تأثيرًا مباشرًا على المرضى النفسيين، ومع اشتداد الحصار المفروض على كامل سورية، وإغلاق المعابر وانقطاع الطرق، بات من الصعب إيجاد بديل دوائي لهؤلاء المرضى الذين يعانون، أشدّ المعاناة، من نقص الدواء المخصّص لحالتهم، ويبقى الأمر خطرًا مع انعدام المشافي المتخصصة، أو معامل دواء صغيرة، في ظل انعدام القدرات والكفاءات الطبيّة، ويبقى أمر تأمين الأدوية الخاصة بالأمراض العصبية مرهونًا بفتح المعابر، أو التفكير في إيجاد حل بديل لهذه الأزمة.

Author

الوسوم

مقالات ذات صلة

إغلاق