تلعب أقلام المثقفين دورًا جوهريًا في بناء الوعي الحر عند المجتمعات، كما أنها في الوقت نفسه، تلعب أحد أبرز الأدوار في تَغْفيل أفراد المجتمعات عن حقوقهم في العيش بحرية وعدالة.
يقول الكاتب والمفكر الفلسطيني، إدوارد سعيد، في كتابه “المثقف والسلطة”: إن “من المهام المنوطة بالمثقف أو المفكر أن يحاول تحطيم قوالب الأنماط الثابتة والتعميمات (الاختزالية) التي تفرض قيودًا على الفكر الإنساني وعلى التواصل ما بين البشر”.
شكلت مشاركة المثقفين -في الحالة السورية- حجرًا أساسًا في تحشيد الجماهير في الساحات والطرقات، على الرغم من صوت الرصاص الدامي فوقهم. تقول سلوى، ناشطة سورية مقيمة في دمشق، لـ (جيرون): إن “صوت المثقفين بداية الثورة أعطاني القوة والقدرة على متابعة الطريق، ولاسيما أن المثقفين يُعدّون قيمة ثورية لا يمكن الاستغناء عنها؛ برهان غليون، ياسين الحاج صالح، وغيرهم من المثقفين، شكلوا فينا دافعًا نفسيًا للاستمرار”. وتُردف سلوى بالقول: إن “المثقفين هم ميزان الوعي في المجتمعات، عندما نرى المثقفين في الصفوف الأولى للثورة، ندرك تمامًا أن مطالبنا محقة، وأننا نسير في خط الوعي الصحيح”.
الثورة السورية والمثقف
طُرحت نقاشات كثيرة حول دور المثقف السوري في إنتاج بذور الثورة السورية، وتغذيتها بالفكر والدفع الاجتماعي، فبعض السوريين ذهب إلى أن المثقفين هم من حشدوا الوعي المُنتج للثورة، في حين أكد كثيرون أن المثقف السوري كان سلبيًا قبل الثورة، مختزلين انطلاقة الثورة السورية بالقول: “شعبٌ مظلوم وصل نقطة الصفر، وما كان في يديه خيار إلا أن يثور”.
يقول الكاتب والمترجم، بدر الدين عرودكي لـ (جيرون): “نعلم أن تأثير المثقف في الوعي الاجتماعي الفعلي يتوقف على عدة عوامل، ربما كان أهمها الهامش المتاح له لممارسة فعاليته في مجتمعه، أي هامش الحرية وإمكان التفاعل، وعلى مدى قدرة وصول صوته إلى طيف واسع ومتنوع من الناس، وعلى ما يقوله هذا الصوت أو يبثه من رسائل”.
ويوضح عرودكي: “لم تكن هذه العوامل ممكنة خلال السنوات الخمسين الأخيرة في سورية، بعد أن قام النظام الأسدي بتفريغ المجتمع السوري من السياسة ومن الثقافة معًا، وبتحويل بعض المثقفين إما إلى سجناء أو مهاجرين، وبإخصاء أو كتم صوت من تبقى”.
وتابع “أما أن ينتج الجهد التثقيفي ثورة، فتلك مسألة لم تبرهن على إمكانها -حتى الآن- وقائع أية ثورة في التاريخ، ولا تشذ الثورة السورية عن ذلك بالطبع”، معقبًا على سؤال (جيرون) حول إمكانية المثقف في التوعية الثورية قائلًا: “ربما من الأجدى الحديث -هنا- عن إمكان، أو طبيعة، التفاعل بين نتاج المثقفين في هذا المجال، والوضع الاجتماعي السابق على الثورة”.
ويقول الكاتب علي سفر لـ (جيرون): إنه مع “الانقلابات البعثية الداخلية التي همشت مثقفي البعث الأوائل، اشتغل العسكر ضد فكرة المثقف، حيث بات على الشخصيات الثقافية، إما أن تكون تابعة لهم، أي: تجاريهم وتمارس النفاق لخدمة توجهاتهم، أو أن تصبح خارج جنتهم”.
وعاد سفر إلى الخَلْف قائلاً: “لو عدنا إلى مذكرات عديد من الكتاب في مرحلة الستينيات، سنرى كيف عُومل المثقفون الذين خرجوا من دائرة تأييد العسكر كمعارضين، وكيف تم تسليط الإعلام ضد المثقف، حتى بات شتم المثقف، وعدّه كائنًا مقرفًا جزء من تركيبة الوعي الشعبي، وقد استمر هذا الأمر طوال حكم الأسد الأب، الذي لم يتعامل مع المثقفين إلا من خلال معيارية الـ (مع أو الضد)، ولو تأملنا في حال مثقف السلطة آنذاك، سنرى كيف كان الديكتاتور يجزل العطاء له”.
وأشار إلى أن “الأسد الصغير بدأ سنوات حكمه باضطهاد المثقفين الذين تداعوا للبدء بالحراك المدني الديموقراطي، بعد خطاب القسم الشهير، والذي سُمّي –الحراك المدني- بربيع دمشق، وأعتقد أن من يدقق في الطروحات التي قُدمت في تلك المنتديات سيلحظ أن بدايات ثورات الربيع العربي النظرية قد كرست في الحوار الذي كان يجري بين المثقفين، الذي سرعان ما تم قمعه وسجن العشرات من المشاركين فيه. من هذه الزاوية أرى أن للمثقفين دورًا كبيرًا في ما جرى في الثورة السورية”.
الكاتب والروائي، محمود الوهب، يرى أن “الأغلبية العظمى من المثقفين السوريين لعبوا -قبل عام 2011- دورًا توعويًا بما أتيح لهم، لكن تأثير هذا الأمر وظهوره للعيان مرتبط بأمرين اثنين: أولهما: أن تكون الشرائح المجتمعية المعنية بالتغيير على استعداد لملاقاة رؤية المثقف وتلقفها، أعني المستوى الاجتماعي من تعليم، ووقت فراغ، وتعاط مع الشأن العام، والسياسي منه في القلب، فالتغيير، في النهاية، شأن سياسي لا ثقافي. فالثقافي منوِّر ومحرّض على الفعل”.
وأضاف، خلال حديثه لـ (جيرون)، أن الأمر الثاني هو “أن يسمح المناخ العام للمثقف ولغيره بالكشف عن وجهة نظره وإيصالها، وهذا لم يكن متوافرًا. أذكر -على سبيل المثال- أن مسرحية (الملك هو الملك) لسعد الله ونُّوس، عرضت على مسرح الحمراء ليومين فقط، ثمَّ منعت، كان ذلك أوائل سبعينيات القرن الماضي، كما تراجع المسرح، فيما بعد، وأعدمت السينما. هذان الفنّان اللذان يمكن أن يلعبا دورًا أكبر في حياة الناس، فضلًا عن مقص الرقيب في الصحافة والوسائل الثقافية الأخرى”.
الثورة انطلقت والمثقفون أطلقوا العنان لإبداعاتهم
بعد انطلاق الثورة السورية، بدأت حالة من الغربلة تظهر في الساحة الثقافية، فكثير من المثقفين نزلوا إلى الشوارع؛ ليقفوا إلى جانب الشعب السوري الذي يطالب بحريته وكرامته، في حين استنكف آخرون عن النزول، وحضّروا حناجرهم لتصرخ في وجه الشعب مع النظام، فتبنّوا وجهة نظر الأخير، وحدّثوا الإعلام بخطابه.
كما أن بعض المثقفين المعارضين تراجعوا عن الظهور في الساحات الثقافية، بعد أن ظهرت عوامل العسكرة في الثورة السورية وسالت الدماء، وعادوا إلى طاولاتهم صامتين، دون أن يخطّوا من الكلام ما يشكّل دعمًا للثورة.
يرى الوهب أنه “بعد عام 2011 تباينت آراء المثقفين، ومواقفهم، فمعظمهم، وقف إلى جانب الحراك الشعبي السلمي، وكان راغبًا في التغيير فكتب، ورسم، وغنَّى، ومثَّل، ونزل إلى الشارع أيضًا، وهكذا ظهرت كتابات كثيرة، وأغان وأفلام، ومسلسلات تنتصر للشعب، وتدين الاستبداد وأفعاله المشينة”.
وقال “أودُّ الإشارة إلى أمر مهم، هو أنَّ أيَّ فعل سياسي لا يباركه المثقفون بإبداعهم، هو فعل بعيد عن روح الشعب، فما الفن -في مدى جمالياته- إلا التعبير عن هذه الروح، روح الشعب والإنسان، لكنَّ ظاهرة القمع الوحشي، وعسكرة الحراك السلمي، وظهور التطرف المقيت، إضافة إلى التجييش الطائفي الذي اعتمده النظام أولًا، وجاراه بعضهم فيه، كما العسكرة تمامًا، جعلت بعض المثقفين ينكفئون قليلًا”.
إلا أن علي سفر يرى أن “هناك انكفاء فعلي لدور المثقف، وأيضًا هناك غياب للفعل الثقافي، فحتى الحرب لها قوانينها ولها ثقافتها، ولكن كل ذلك غائب”، مستدركًا: “ومع هذا يمكن أن نرى دورًا للمثقف، وهذا الدور يقوم على تدوينه للحظة التاريخية، عبر نقدها، وعبر السجال معها، وأيضًا استشراف آفاقها”.
وتابع: “المسألة هنا تدخلنا في الدور الفاعل للمثقف العضوي، والذي يمكنه أداء دوره تجاه ما يحصل”، موضحًا أن “المسألة النظرية تجد اختبارها الحقيقي، بما يمكن للمثقف أن يقترحه من أساليب علاج ورؤى”.
مستقبل سورية والمثقف
تجعل تطورات الأوضاع في سورية دور المثقف على المحك، من حيث إمكانيته في التأثير في رؤية الشعب السوري لمستقبل بلاده، في خضمّ هذا الدمار وأمام سيول الدماء. كما أنها -التطورات- تهدد قيمة المثقف في رأب الصدع الحاصل في سورية على المستوى الاجتماعي والمرجعي.
يعتقد سفر أنه “لا يمكن التفكير في سورية المستقبلية، دون وضع استراتيجيات ثقافية، دعك من صورة المثقف وقيمته؛ إذ لا قيمة للأشخاص في زمن الخسارات العظمى، ولكن ثمة قيمة كبيرة للأفكار وللأدوار التي تعمل على خدمة الناس، وإعادة تأهيل الحياة السورية لتكون لائقة بالبشر”.
ويضيف: “يمكن لنا الآن التفكير بما يقوم به المثقف من كتابة وفعل، إنه يدون الآن اللحظة من أجل أن تُستعاد في المستقبل، بوصفها جزءًا من الذاكرة، وأعتقد أن غياب الذاكرة المدونة عبر المنتج الثقافي، يجعل من خطر الحرب قائمًا في أي وقت، وعليه، فإن دور المثقف الآن، وفي المستقبل، مهم جدًا، ويستحق أن تتم مراجعته”.
وحول قيمة المثقف في مستقبل سورية، قال الوهب: “أنا لا أعتقد أن المثقف فقد هيبته، وتبقى مسألة الحرية والكرامة الإنسانية هما الأهم والأساس، لا لتنمية الثقافة واستواء حال المثقف فحسب، بل لتنمية المجتمع كله”.
وتكمن الاشكالية -اليوم- في وجدان الشعب السوري الذي انقسم بين مؤمن بدور المثقف في وَزْنِ خطوات المجتمع، وبين من يرى أن المثقفين بدؤوا الثورة بخطوات بطيئة، وتوقف كثير منهم بعد أن رأوا رياحًا حمراء تُسرع خطاها إلى أراضيهم.
تعليق واحد