فيما يغوص عمران في غبار بيته المهدم، ودماء رأسه النازف، نغرق نحن في عوالمنا الزرقاء، نستنكر مشهد الطفل المدمّى الذي لم تكن لديه الفرصة ليذرف دمعة واحدة، لربما كانت الدموع هي ترفنا الذي نمارسه من خلال الشاشات، وعلى امتداد ألف سنة ضوئية تفصلنا عن عمران وأقرانه.
الطفل ذو السنوات الخمس، والخارج من الجحيم مع عائلته، كان أعجز من أن يبكي، فالبكاء غسيل للروح، وما يراه طفل يعيش تجربة بهذه القسوة، يجعل من الاستحالة بمكان أن تكون لديه الرغبة في نسيانها.
كثر هم الأطفال الذين تلقّفتهم عدسات الإعلام لتسلّط الضوء على بعض القضايا، وللتعمية عن قضايا أخرى؛ مشهد الطفلة الناجية من مجزرة الكيماوي، عشية استهداف الغوطتين، قبل ثلاثة أعوام من الآن، ما يزال ماثلًا في أذهان كثيرين، تلك الطفلة التي كانت تصرخ، دون أن تصدق أنها كانت من بين الناجين لتقول: “عمو، أنا عايشه”..
أي بؤس ذاك الذي يحمل طفلًا على الابتهاج؛ لأنه ما زال على قيد الحياة!
في الحقيقة، يبدو الموضوع شائكًا على مستويات عدة، فإذا تناولنا الموضوع من منظور الشرخ الاجتماعي القائم، سنلحظ أن الهوة بين مكونات المجتمع السوري باتت سحيقة، حيث أن نظام “بشار الأسد” وحلفاءه أعاد البلاد قرنًا من الزمن إلى الوراء، على أقل تقدير، وما يعدّه هذا الطفل أقصى أمانيه في هذه الحياة، وهو أن يخرج حيًا من تحت الركام، أو أن يستطيع رؤية وجه أمه من جديد، أمر لا يخطر في بال أحد غير أولئك الخارجين من تحت الأنقاض في الشمال السوري، وإدلب وحلب تحديدًا، فيما قد تجد له ابن عم قد تمكن من الوصول إلى أوروبا، ولربما كان يتسلى بجهاز الكومبيوتر المحمول، ويرى الصورة دون أن يدرك أن الصورة التي تضج بها وسائل الإعلام هي لابن عمه!
من هذا المنطلق، لا نستطيع إنكار أن المنظومة الاجتماعية هي أكبر الخاسرين، وأن السوريين باتوا بحاجة إلى عقد اجتماعي جديد، بدلًا من هذا المتهالك، الذي أثبت عدم جدواه، نتيجة تصدعه وتهاويه، في غمرة الزلازل التي ضربت سورية خلال السنوات الأخيرة، منذ انطلاق الثورة السورية.
إن انتشار صورة -كصورة عمران- عبر وسائل الإعلام المختلفة، وتصدّرها في كبريات الصحف العالمية، لا تعني -بالضرورة- أنّ ثمة يقظة أصابت ضمائر هذا العالم، الفاقد لقيم الإنسانية كافة، أو أن المستقبل لن يشهد مآسيَ شبيهة بمأساة عمران، إنما هو استماتة في استثمار هذا الطفل وأشباهه في عملية غسيل ضمائر، شبيهة بتلك المسماة غسيلًا للأموال، من خلال استثمارها في أنشطة عديمة المردود، للتغطية على المصدر الحقيقي، غير الشرعي لهذه الأموال، وهي لعبة أثبتت روسيا تميزها في رعاية هذا النوع من النشاط الاقتصادي المشبوه.
اللعبة ذاتها يجيد الإعلام العالمي، والأميركي لعبها، في استثمار الصور الصادمة لعكس مسار القضية، فعمران الذي خرج من تحت الأنقاض يمثل حالة أنيقة لما يجري لأطفال سورية، فلا أشلاء تخدش أحاسيس المجتمع الدولي الذي يأنف مشهد الدم، فتأتي الصورة لتحريك الملف السوري، وضرورة إيقاف الحرب، وكأن هذا الطفل وأشباهه يملكون طائرات وأسلحة دمار شامل، تجعلهم أندادًا لخصومهم في لعبة الحرب هذه!
تطرح هذه الصور أسئلة كثيرة حول البعد الاجتماعي لما يجري في سورية، فالطفل الخارج من تحت الأنقاض سيكبر يومًا، وهو يحمل حقدًا دفينًا على كلّ من بكاه من خلف البحار، دون أن يجهد نفسه في إيجاد حل له، في المقابل هنالك كثيرون ممن لم يخرجوا سالمين، بل خرجوا بعاهات مستديمة، ليجدوا أنهم -وحدهم- من نجوا من بين أفراد عائلاتهم، ماذا نتوقع من هؤلاء الأطفال؟
ما لا يدركه كثيرون أن المأساة التي يعيشها الأطفال السوريون في كل مكان، لن تقتل فيهم روح البراءة فحسب، بل ستقتل داخلهم روح التسامح أيضًا؛ تلك الروح التي ستجعل من كل طفل سوري قنبلة موقوتة، وحجم الدمار الذي ستسببه أكبر بكثير من أن يتم إعماره خلال مؤتمرات إعادة الإعمار، أو محاضرات سلم أهلي وعدالة انتقالية، ولن يعوّضهم عن لحظات الطفولة التي انتزعت منهم أي مقابل مادي، مهما كان ضخمًا.
على الضفة الأخرى من العالم، طفل وصل آمنًا بعد رحلة عبر قوارب الموت، بين هؤلاء الأطفال من انقلب به القارب فنجا وحده، وبقي دون عائلة، وبينهم من فقد التواصل مع بقية أفراد عائلته، ولم يعد يعرف فيما إذا كان هنالك أمل بلقاء أهله، وآخرون توجهوا إلى الفردوس المنشود (أوروبا) وحدهم، في مغامرة أقرب ما تكون إلى تجربة على فعل الموت، ببساطة؛ لأن هذا الطفل القاصر الذي لم يتجاوز الرابعة عشرة في بعض الأحيان، هو الأمل الوحيد في انتشال عائلته التي فقدت المعيل، من الجحيم الذي يعيشونه تحت وطأة الدمار، والخراب، والطائرات التي تفرغ ما في جوفها على رؤوس هؤلاء الناس؛ ذلك القاصر الذي يكبر في مجتمع يختلف تمامًا عن مجتمعه، وفق عادات وتقاليد مختلفة، في وسط اجتماعي لا يفهم إلا لغة الأرقام، دون أن يلتفت أحد إلى الفراغ العاطفي الذي يتركه غياب الأسرة، ومع تعقيدات معاملات لم الشمل، واستعصاء الموضوع -أصلًا- في بعض الأحيان، سيتحول هذا القاصر إلى كائن حاقد على البشرية جمعاء، وأهله ضمن المنظومة ذاتها؛ في دول اللجوء بات هنالك كثير من هذه الحالات، زد عليها فرض سمة الدخول على السوريين من تركيا، والإجراءات التعجيزية للسوريين في لبنان والأردن، وهي الدول التي انطلق منها هؤلاء الأطفال في رحلات الموت تلك، ما جعل من الاستحالة بمكان أن يجتمع هذا الطفل بأفراد عائلته!
كل هذه العوامل، وغيرها كثير، تجعل من الطفولة السورية حقلًا من الألغام، قد ينفجر المارّ به أينما اتجه، وحيثما كان، وفي غفلة العالم عن هذه البقعة الجغرافية المسماة “سورية”، وما يجري فيها من موت يومي، وتناسيهم الضريبة الكبيرة المتراكمة من الدم، يكبر أطفال، ويولد آخرون، نعتقد أن بيننا من سينجو من لعنة أحقادهم، ويظن الآخرون كذلك، لكن غفلة العالم عن نظام بشار الأسد، ستجعل من كل طفل سوري غريمًا للعالم بأسره!