للأيديولوجيا السلفية الجهادية أسس تقوم عليها؛ تبدأ من مفهوم الحاكمية كما طرحه “أبو الأعلى المودودي” و”سيد قطب”، وتبنته السلفية الجهادية؛ إضافة إلى صراع الثنائيات المتضادة؛ حتى تحقيق الخلافة الإسلامية في دولة تحكم بالشريعة؛ لذلك، لا بد من المرور بمرحلة الانقلاب المجتمعي، للقضاء على كل المفاهيم الجاهلية الوافدة إليه من الخارج، أو المُحْدثة والواقعة في إطار صراع الثنائيات، وأي قبول بمصطلح مضاد لأيديولوجيتهم، فهو متعارض مع الحاكمية الإلهية ومؤخر لتحقيقها، مهما كانت نسبته أو نسبيته، ولا توجد -إطلاقًا- منطقة ثالثة ما بين الإسلام والجاهلية، وعلى المؤمن أن يجاهد الجاهلية بكل قوة وعنف! وحتى يتحقق ذلك، فإن التغيير يبدأ من رأس السلطة ونظامها الحاكم.
ولا يتحقق هذا الانقلاب المجتمعي إلا بوجود دكتاتور قوين يملك الرؤية الحق وصوابية العقيدة والمنهج، يقود الجماعة المؤمنة، بحزم وشدة لا تأخذه في الله لومة لائم، وبذلك يُؤمن (المودودي)؛ حتى أنه فسر واقعة يوسف -عليه السلام- بمصر من منطلق دكتاتوري؛ حيث قال شارحًا قول يوسف عليه السلام: (اجعلني على خزائن الأرض): إن هذه لم تكن مطالبة لمنصب وزير المالية فحسب، بل إنها كانت مطالبة للديكتاتورية؛ ونتيجة لذلك، كان وضع سيدنا يوسف عليه السلام يشبه جدًا وضع موسوليني في إيطاليا الآن.
هذا الانقلاب في تغيير مفاهيم المجتمع؛ يبدأ بالإيمان العميق بالحاكمية ومفرزاتها؛ لتصل إلى المظهر الخارجي للمؤمن بها، من حيث لباسه، وبهذا يتحقق تميز المؤمنين عن المرتدين والكفار ودعاة الجاهلية؛ حتى في المجتمعات المختلطة.
هذا الانقلاب المجتمعي له مسلكان: مسلك قبل التمكين. ومسلك بعد التمكين. أما مسلك قبل التمكين؛ فيرون أنّ من حقهم أن يعرضوا منهجهم ودعوتهم على الآخرين؛ فالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فريضة على كل مؤمن، وكل مَنْ يعترض طريقهم في ذلك، عدو لله ورسوله والمؤمنين.
والدعوة إلى منهجهم، ومحاربة البدع والخرافات فريضة، لا يحق لأحد مهما كان منعها، فإنْ تكاثروا وازداد عددهم وقويت شوكتهم؛ وحدث اضطراب في بلد ما؛ تفككت فيه السلطة الحاكمة، أو تلاشت، وجب عليهم السيطرة عليه، والعمل للتحول إلى مرحلة التمكين، من خلال مجاهدة الأنظمة غير الملتزمة، والمختلفة مع أيديولوجيتهم، عندئٍذ تفرض منهجها بالقوة والإكراه على الآخرين، الشركاء في المجتمع، ولا يجوز السماح للآخر المسلم، المختلف معهم في اعتقاده ويعيش بينهم، أن يمارس اعتقاده؛ إنما يدخل في جماعتهم وإلا غدا فردًا من الدرجة الثانية، وإنْ مارس اعتقاده كالصوفية أو الأشعرية أو الشيعة أو سواهم، يُذبح بتهمة الردة ومخالفة المنهج الصحيح.
والأمثلة على ذلك في المناطق التي سيطرت عليها (داعش) أكثر من أنْ تذكر؛ فعلى سبيل المثال لا الحصر، كنتُ شاهدًا في الرقة على هذا السلوك، فهم عندما جاؤوا إليها؛ وكان يديرها أحرار الشام وجبهة النصرة وبعض الكتائب التابعة للجيش الحر، كانوا مهتمين بأمور الدعوة لأيديولوجيتهم، ويتكاثرون من خلال توافد بعض الجهاديين إليهم من أماكن مختلفة من العالم، إضافًة إلى انحياز بعض من أفراد هذه المجموعات الموجودة لهم، حتى إنْ قويت شوكتهم، وأصبحوا قادرين على الآخرين، انقلبوا عليهم وبسطوا سيطرتهم، وطردوا كل من لا يقبل بنمط إدارتهم تلك المناطق ولا يبايعهم؛ حتى لو تطابق معهم في الاعتقاد ومفهوم الشريعة، ولم يقاتلهم. وأتذكر -تمامًا- ما فعلوه بأفراد من حركة أحرار الشام، من أبناء محافظة دير الزور، عندما أعطوهم الأمان للخروج من الرقة إلى دير الزور، ولكن عند مفرق “الكناطر” استفردوا بهم وذبحوهم.
هنا يتحقق الانقلاب المجتمعي، من خلال جعل المجتمع شكلًا واحدًا في الاعتقاد، ومنهجية التفكير والسلوك، وحتى المظهر الخارجي والهيئات العبادية، ومن خلال الشدة والقسوة والحزم مع الآخر، وخلال فترة وجيزة يتحقق الانقلاب المجتمعي؛ فيتم تغيير المفاهيم والثقافات والاعتقاد والأعراف باتجاه أيديولوجية السلفية الجهادية، ويركزون في ذلك الانقلاب بالمناطق التي يسيطرون عليها على المرحلة الابتدائية؛ لبث أفكارهم، وتجذيرها في ذهنية الطفل حتى يشبّ عليها، متشبعًا بأفكارهم ومؤمنًا بأيديولوجيتهم؛ ليبذل من أجلها الغالي والنفيس بلا تردد.
هذا الانقلاب المجتمعي؛ يتم بذريعة أحقيتهم بقيادة المجتمع من جهة؛ وأن الآخر الإسلامي ضال منحرف عن العقيدة الصحيحة؛ وحول ذلك يقول أحد دعاة السلفية المعاصرة، أبو حـــاتم البُلَيْـــدِي، على الرغم من خلافه مع الأسلوب الداعشي: “وليعلم الناس أن أهل السنة السلفيين هم أنصار الله ورسوله صلى الله عليه وسلم في هذا الزمان، وفي كل زمان، إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، فماذا يعيب الناس علينا، أتريدون أن نفرح باجتماع الرافضة والصوفية والأشاعرة والمرجئة والخوارج، وسائر فرق الضلال، في خندق واحد، وقلوبهم متفرقة، كلهم يدعي أنه ينصر الإسلام”.
هذا يعني أنهم يرفضون الآخر مهما كان، ولا مكان له بينهم، إنما المجتمع الذي يسيطرون عليه مجتمع مستنسخ من أيديولوجيتهم؛ في كل شيء من المظهر حتى الجوهر، مرورًا بالسلوكية؛ ضاربين بعرض الحائط الدعوة القرآنية التي تدعو إلى التشاركية الإنسانية:
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} الحجرات:13.