هل بالإمكان إحلال انتمائية سورية، ثقافيًا وأخلاقيًا وسياسيًا، لتجُبّ ما قبلها من مشاعر “ما قبل السورية”، أي: ما تحت وطنية مُنتِجة لفقه المظلومية الشائع تاريخيًا في نشرة الأحوال النفسية والذهنية العميقة للمكونات السورية؟ لا يُفهم من ذلك أن لا وجود لهذه المظلومية التي تناقلتها المكونات تاريخيًا، حسبما اقتضته وفرضته رياح التحولات عبر التاريخ في موازين القوى المجتمعية، اجتماعيًا وسياسيًا وعسكريًا واقتصاديًا، تحولات وضعتنا أمام مسارات متباينة، متعارضة، متصارعة، متناقضة، متعادمة، لتداول المظلومية، وكل تداول للمظلومية هو تراكم في فقهها.
ليست المظلومية خارج السياقات التاريخية للبشر، فلطالما أنتج هؤلاء ظالمهم ومظلومهم ومظلوميتهم، وكرروا فعلتهم على الدوام، ولسان الحال يقول: أين كان الظالم وأين المظلوم.
يبدو السؤال عن تاريخ البشر بوصفه تنويعة على الظلم، سؤالًا محقًا ومشروعًا لفرط ما تكرر الظلم ويتكرر في عالم البشر، الماضي والحاضر والمستقبل، دون أن يعني ذلك تجريف العدل من على وجه التاريخ.
لا يمكن عدّ الشعور بالظلم أمرًا خارج المجال الأخلاقي أو الإنساني، بل على العكس من ذلك تمامًا، فهو لصيق المشاعر الإنسانية والأخلاقية، ولا ينفصل عنها مطلقًا، لكن المظلومية ما هي إلا شعور الظلم، وقد صار شكلًا عقديًا، يستبطنه السلوك بقدر ما يتغذى منه ويتجلى فيه.
ما هو أسوأ من ذلك حين يصير للمظلومية فقه، يعيد إنتاجها في الواقع، ويحرص على تجوهرها؛ لتكون عقدة فوق تاريخية، خاصة بهذا المكون أو ذاك، عبر آليات الحفر والتأويل والتفسير التي تشكل -مع مرور الزمن- مدونة فقهية تشرح وتؤسس وتبرر وتشحن السردية الكبرى، وتضفي عليها دوام العافية.
بعد ذلك يأتي ما هو أسوأ بكثير، يأتي المستثمر الذي يقطف ثمار السردية بعد صرفها وتحويلها إلى عملة للكراهية القصوى، استثمار أيديولوجي على شكل حشد وتعبئة، يقنع السلطة والهيمنة.
لا أحد يستطيع أن ينكر ما في تاريخنا الكوني الإنساني، أو المحلي الديني والوطني من مظلوميات تكشف شعورًا محقًا بالظلم لدى هذه الجماعة، أو ذلك المكون، فعدم الإنكار هذا يشكل مدخلًا أوليًا، بالمعنى المعرفي والأخلاقي والقانوني والسياسي والوطني، لإقامة الحد على الظلم وحذفه في معطى مغاير، معطى وطني، يشكل البعد الأخلاقي والإنساني والقانوني والسياسي لحمته وسداه.
لا يستطيع أحد إنكار (في سياق معادلة المظلومية) تحول الظالم إلى مظلوم، والعكس صحيح، إذًا؛ ليس في تاريخنا القريب أو البعيد ثمة من هو مظلوم، إلا وتحول إلى ظالم حين واتاه ميزان القوة.
هذا يعني أننا تساوينا -كمكونات- أمام التاريخ بوصفنا مظلومين وظالمين، وتساوينا في حظيرة الاستبداد في كوننا لا شيء، وتساوينا في الواقع بأننا كائنات “توتاليتارية”، تستطيع قوى السلطة والمتاجرون بالدماء والإماء استدعاءنا للحشد والتعبئة عند الحاجة؛ هذا يعني -أيضًا- ضياع الفرص التاريخية في إعادة نسج المجتمع لذاته، اندماج مجتمعي عبر تاريخي، تراكمه ثقة عبر مدنية، سياسية وأخلاقية وقانونية، تجليّه وتتجلى به، تنتجه وينتجها ويمسك بعضها برقاب بعض.
تاريخنا البعيد والقريب هو تاريخ المظلوميات، وتاريخ تحول المظلوم إلى ظالم والظالم إلى مظلوم، وثمة -دومًا- شحن فعال للسرد المستمد من المظلوميات، جعل منّا جميعًا أولاد السرد الأبرار.
يتكور البعد السوسيو – ثقافي للمكون العلوي على رواية الظلم والاضطهاد التاريخي، وهي رواية عاشها العلوي عبر تاريخه، وتماهى بها واستبطنها إلى حدّ بعيد، فليس لذي عقل وقلب أن يكذّب وقائع تاريخية نسجت الوجدان العلوي المكلوم بوصفه ضحية.
وإنه لقول ذي بصيرة ما قاله إدغار موران عن السجين الذي لم يفهم المغزى العميق للاعتقال؛ إذ هو فكر بأن يودع مكانه السجّان.
حين تمكّن حافظ أسد من الوصول إلى السلطة، أعاد دمج الراوية في فقه السلطة وصدقّه الزعران، وتماهت سيرورة القبض على السلطة مع سيرورة تحوّل العلوي المظلوم إلى العلوي الظالم بصورة رجل الأمن المتوحش أو الضابط العسكري المتنفذ، المعتقِد أن البلاد تقف على أصغر أصابعه، حافظ أسد عجن، بخبث ودهاء شديدين، مظلومية العلوي برغبته الأبدية في السلطة، ونجح -أيما نجاح- في تحويل المكون إلى جسم ذاتي وموضوعي للسلطة التي شكلت عقدته الفادحة، وهكذا ماهى بين المكون والنظام، بين الظلم والانتقام في شخصه، أولًا وقبل أي أحد آخر، ثم تبعه الزعران على الدرب، ليتمّوا السطو على العلويين الطيبين والمظلومين تاريخيًا وتتم المأساة. ولا عجب -بعد ذلك- في أن يرى بعض السذج والزعران في حافظ أسد أحد “ظهورات” الله، ولا عجب -بعد ذلك- أن تنطلق سيرورة توحّش منفلتة من كل عقل وعقال، يبدو لي أن سلوك السجّان (بوصفه أجير هوياتي سلطوي) في نظام الأسد، في تحوّله إلى أعمى ومتوحش وقاتل في تعامله مع المعتقلين، أنه صورة السيرورة – الكارثة تلك، التوحش المتولد عن الإحساس بالخطر الداهم على الوجود، سلطةً وهوية، مادة ورمزًا، كارثة من مسارين: الأول هو أسر المكون، والثاني أسر أكبر للمجتمع السوري، وضياع الفرصة التاريخية في استئناف العمليات التاريخية للاندماج المجتمعي السوري التي شكلت الحقبة “الكولنيالية” بدوتها المشرقة.
ينبغي النظر إلى الظلم بوصفه كارثة نوعية، لا تخضع لمقولات الإحصاء، بوصفه نوعًا يتأبى على مقاييس الكم، مهما اجتهد العقل البشري بصيغه التبريرية والأيديولوجية في إضفاء نوعٍ من التخفيف والاستخفاف؛ لتهوين الكارثة، بهذا المعنى، جاءت الآية القرآنية الكريمة {من قتل نفسًا بغير حق كأنما قتل الناس جميعًا}، وأستعير الصيغة “الكانتية” بتصرف ” إذا كانت سعادة البشر تتوقف على قتل طفل، فلا شرعية لهذه السعادة”، هل هذه مثالية صوفية؟، ليكن. وأضيف أنها صوفية أخلاقية تنقص العالم، وتنقص حكومة القذارة العالمية، كي يصبح العالم قابلا” لحياة أقل قبحا” لكي لا أقول أكثر جمالا”، وهذا ما نحتاجه اليوم في سورية، قليلا” من صوفية أخلاقية سياسية تعود بها من حواف النهايات، وتجعلها أجمل بجميع عيوننا.
وبالنظر إلى معادلة (ظالم ومظلوم) التي وسمت تاريخنا أستطيع القول وليسمح لي ديكارت: الظلم أعدل الأشياء قسمة بين الناس بدلالة الواقع والتاريخ.
تقول سردية الأكراد بمظلومية الاضطهاد المركب، وهي محقة في عديد الجوانب، وهي محقة في طلب الحل بوصف وجود الظلم، ولا يحتاج الأمر (مشروعية الحل) لأسباب إضافية وصفات إضافية، فالظلم بما هو كذلك يكفي، دون أي صفة، لاستدعاء ضرورة الحل (رفع الظلم) الذي يجب أن يخضع لنقاش عميق وعادل ومتوازن، بقطع النظر عن المآلات، وبهذا المعنى، فالفرائض لو تمت لأسقطت النوافل، لا يحتاج الموصوف (ظلم) لصفة “مركب” لكي يحظى بمشروعية التفكيك، فلطالما أكلت الصفة الموصوف في تاريخنا.
هنا أيضًا، وفي سياق ما تقدم حول آليات اشتغال فقه المظلومية، بما في ذلك الإحالات الرمزية، وفي إطار التحولات التي أصابت طرفي المعادلة، بحكم متغير ميزان القوة، نلاحظ كيف تحول بعض الأكراد من مظلوم إلى ظالم، الحديث هنا عن المقاتلين الأكراد الذين ارتكبوا مجازر بحق بعض العرب، وأقدموا على تجريف وحرق منازل، يا إلهي كم تستثمر مطامع القوة والسلطة في فقه المظلومية!
في سياق الثورة بدأت تلوح في الأفق بوادر مظلومية سنية أيضًا، وهي محقة كذلك بالنظر إلى فداحة ما جرى وما يجري بحقهم، لكن هذه المرة نشهد تحول من الظالم (في نظر بعضهم، استنادًا إلى التاريخ القريب والبعيد) إلى المظلوم الذي تكالب عليه النظام وقوى العهر الدولي، وهو في الحقيقة ليس سوى تكالب وعهر على الشعب السوري الذي صاح صيحته الكبرى.
لا يعني الحديث عن بعض المكونات دون غيرها أن باقي المكونات ليس لديها مظلوميات راكمت فقهًا خاصًا بها، وأنها غير قابلة للاندراج وفق معادلة (ظالم- مظلوم)، لكن الأمر يبدو مرتبطًا بموازين القوى اللعينة دومًا.
والآن، إذ وصلنا إلى ما وصلنا إليه، تجاوزنا المأساة وبلغنا حواف الهاوية، ماذا بعد أيها السادة السوريون؟
هل تساوي سورية شيئًا بدون العلويين؟ بدون الأكراد، ممن يعدّونها وطنًا نهائيًا؟
هل تساوي شيئًا بدون الموحدين، بدون السنة، بدون المسيحيين، بدون أي مكون ولو كان صغيرًا؟ سورية لا تساوي شيئًا إلا بحضور جميع ألوان الطيف.
ألم يحن الوقت بعد للانتماء إلى سورية التي صارت ضمادًا ضروريًا وعاجلًا للجرح، ومبضعًا ضروريًا وعاجلًا لتفكيك المظلوميات وإطاحة السرديات.