سورية الآن

رسائل أميركا من الحسكة

فتح التحذير الذي وجّهه البنتاغون للنظام السوري أخيرًا، وطالبه فيه بعدم الاحتكاك مع القوات الأميركية وحلفائها في مناطق واقعة من محافظة الحسكة، تساؤلات عدة حول السياسة الأميركية في سورية، والأفق الذي تعمل من خلاله وشكل التحالفات التي تنسجها، هذا التحذير الذي جاء بعد الاشتباكات التي اندلعت بين قوات النظام وبعض الميليشيات الكردية التي تعد أصلًا حليفة له، وقيام طائراته بشن غارات عدة على مدينة الحسكة على الرغم من أنها ما زالت تحت سيطرته، ويتشارك مع تلك الميليشيات الكردية مناطق النفوذ والأمن فيها.

الولايات المتحدة التي يُنظر إليها كمستودع لمفاتيح الحلول لما يعصف بالمنطقة، سبق وأعلنت أنها تُدرّب وتساعد ميليشيات كردية لمحاربة تنظيم الدولة (داعش)، تلك الميليشيات التي أصبحت جزءًا أساسيًا مع بعض الشركاء ضمن “قوات سورية الديموقراطية” التي دخلت مدينة منبج أخيرًا، ولكن ما جرى بالحسكة بين قوات النظام وميليشيات “الدفاع الوطني” التابعة له من جهة، وميليشيا “وحدات حماية الشعب” من جهة أخرى، لم  يكن حقيقة قتالًا مع “قوات سورية الديموقراطية” التي تدعمها الولايات المتحدة، بل مع فرع مكوّن لها، وذلك التحذير الأميركي جاء وكأنه خلط للأوراق، وتضييع للبوصلة لمن يراقب، فهل المستشارون الأميركيون موجودون لتدريب “قوات سورية الديموقراطية” أم لتدريب “وحدات حماية الشعب” الكرديّة، فإن كانت الصورة كذلك، فإن النتيجة تعني رسالة ذات ثلاثة أبعاد: الأول موجّه إلى تركيا بعد تحالفاتها الجديدة مع روسيا، وفتحها أبواب العلاقة بطريقة فاعلة مع إيران، ورسالة إلى الروس أنفسهم بأنها قادرة على إيجاد خصوم للنظام من خارج الصندوق المعتاد للفصائل المعارضة، ورسالة لـ “وحدات حماية الشعب” ذاتها، بأنها قادرة أن تتركهم لمصيرهم في كل لحظة، وقادرة أيضًا على حمايتهم، وأن الروس لن يستطيعوا حمايتهم إن قررت أميركا التخلّي عنهم، وخاصة أن الروس دخلوا في تحالف قد يكون على حساب الأكراد مع تركيا.

“المارينز” لنزع الألغام أم لدراسة الموقع

صرّحت أميركا بأن طيرانها قد حلّق فوق محافظة الحسكة؛ لحماية عناصر من قوات “المارينز” التابعة للبحرية الأميركية، بينما بينت المعلومات الأميركية التي وردت في التقارير الإعلامية، أن هذه القوات هي حوالي 45 عنصرًا في منطقة المبروكة، الواقعة غرب مدينة الحسكة، ضمن مهمّة لنزع الألغام التي زرعها تنظيم الدولة الإسلامية (داعش”، في المنطقة الممتدة من المبروكة نحو جبل عبد العزيز.

أعلنت قوات النظام السوري أن غاراتها على الوحدات الكردية، تأتي على خلفية رغبة تلك الوحدات بالسيطرة على محافظة الحسكة، ومن الواضح أنها طوال السنوات الماضية كان حضورها رمزيًا في تلك المحافظة، وذلك بوجودها في نقاط معيّنة وتقديم الخدمات العامة، مقابل أن تبقى المحافظة -سياسيًا وإعلاميًا- تحت سيطرة النظام، وهذا كان مريحًا للقوات الكردية، وتعاملت معه طوال تلك المدّة، وعلى هذا، فإن تقدّم القوات الكرديّة السريع داخل المدينة، كونها لم تلق بطريقها سوى ميليشيا “الدفاع الوطني” بشكل رئيس، فاشتبكت معها، وكان لا بد للطيران من التدخل لتعويض النقص في قواته على الأرض كالعادة، والتحذير الأميركي له، ليس المقصود منه القوات الأميركية، كما صرّح البنتاغون، فعناصر “المارينز”، وفق الخرائط، موجودون في منطقة المبروكة قبل يومين من اندلاع المعارك في الحسكة، والمبروكة تبعد عن الحسكة حوالي 70 كم إلى الغرب، أي أن فرص الاحتكاك مع قوات النظام ضعيف جدًا، وعلى الرغم من هذا، فإن أنباء متقاطعة من ناشطين وإعلاميين بالمنطقة، تفيد بأنه قد تم إخلاء المنطقة من “المارينز” خلال تحليق الطيران الأميركي فوق الحسكة، وبعد انسحاب طيران النظام.

تفيد المعلومات بأن وجود عناصر “المارينز” في منطقة المبروكة، وبحسب موقعها، كان الغرض منه التحضير لمعركة الرقة، كونها تربط مساحات مهمّة تمتد نحو سيطرة تنظيم الدولة الإسلامية (داعش)، وكذلك طرق رئيسة بين حلب والحسكة والقامشلي، والمرجّح وجود رغبة القوات الأميركية باعتمادها كقاعدة عسكرية.

الهدنة التي لم تكتمل

إن إعلان التوصّل إلى هدنة يوم الأحد 21 آب/ أغسطس، عن طريق وساطة روسيّة داخل الحسكة، وتسليم بعض المقرات التي سيطرت عليها الميليشيات الكردية لقوات النظام، ثم الإعلان لاحقًا عن فشل الهدنة بعد ليلة واحدة، وعودة الاشتباكات بين الجانبين، بالتوازي مع تصريح “وحدات حماية الشعب” بأن المعركة قد انطلقت لطرد قوات النظام من مدينة الحسكة، كان قد سبقه عدم اكتراث النظام السوري للتحذيرات الأميركية حول تحليق طيرانه، ويعيد إلى الأذهان ترتيب الأسئلة نفسها والرسائل السابقة، أي أن الوساطة الروسية لا قيمة لها عندما تقرر أميركا أمرًا ما، وأن الخطاب التركي عن دور فاعل لها في سورية خلال المرحلة المقبلة، يلزمه المرور من الباب الأميركي، كون الميليشيات الكردية يمكن تحريكها في سورية بمعزل عن الأسد، وهذا يفتح الباب أيضًا للبحث عن ماهية العلاقة التي ربطت “وحدات حماية الشعب” الكردية بنظام الأسد خلال السنوات الماضية، وأسباب الضغط الذي مورس على المعارضة السورية؛ لقبول ممثلين عنها بوفد التفاوض، والذي من المفترض أنها ستجلس مع النظام الذي هو حليفها، ويُشار هنا إلى أن صالح مسلم، كان قد قال حول التقارب التركي الروسي قبل أيام لصحيفة “الحياة”: إن “الجميع سيتعاملون مع الوقائع على الأرض، وهناك تعاون عسكري بين الأميركيين وقوات سورية الديموقراطية”.

هذا يقود بالمحصلّة إلى النتائج المترتبة على سيطرة “وحدات حماية الشعب” على مواقع في مدينة الحسكة، وعلى الروس والأتراك الأخذ بها كمعطيات جديدة في سورية، وهنا يأتي خلط الأوراق الذي أشرنا إليه، ما بين “وحدات حماية الشعب” بشكلها وتكوينها وبين “قوات سورية الديموقراطية”، فهل بدت أميركا أمام خيارات الاعتماد على التكوين الـ “ميليشياوي” كأي دولة إقليمية بسيطة، لتعيد فرض سياساتها، بعد أن فقدت الفعالية المباشرة كدولة عظمى. ربما تُجيب الأيام والأسابيع المقبلة عن ذلك، خاصة إذا اكتملت عملية إبعاد النظام عن مدينة الحسكة.

خارطة الوجود الأميركي شمال شرقي سورية

بيّنت معلومات سابقة لوسائل إعلام مختلفة عن الوجود الأميركي شمال شرقي سورية، أن هنالك قواعد في منطقة رميلان التابعة لمحافظة الحسكة، والواقعة في أقصى الشمال الشرقي حيث الحدود السورية التركية العراقية، وهي منطقة غنية بالنفط وتسيطر عليها “الإدارة الذاتية” الكردية، وكذلك هنالك قاعدة بمدينة عين العرب “كوباني” شمال شرق مدينة حلب، وهي بذلك على تماس مباشر مع “وحدات حماية الشعب”، حليفة النظام طوال سنوات الثورة، وعلى هذا لم تُستنفر القوات الأميركية مع كل رمي البراميل المتفجّرة أو غاز الكلور، وترسل تحذيرًا للنظام، ولا مع الفوسفور الأبيض من الطائرات الروسية على حلب وغيرها، لكنها وجّهت تحذيرًا للنظام بشأن “وحدات حماية الشعب”، أمّا النظام فقد فهم السقف الأميركي المعتاد، ولم يلتزم بالتحذير، بل أدرك رغبة أميركا في أن يؤدي قصفه للحسكة إلى أن ترتمي الميليشيات الكردية أكثر وأكثر في الحضن الأميركي، وكل هذا -للأسف- على حساب المشروع السوري الوطني، وهو ما سيتم الضغط من خلاله على المعارضة في المستقبل القريب.

الوسوم

مقالات ذات صلة

إغلاق