كل ملفات المنطقة باتت متشابكة، بل تبدو أي رسالة سياسية أو عسكرية، يوجهها طرف من الأطراف المنخرطة في الصراع على سورية، وكأنها موجهة للجميع، أو تعنيهم مباشرة بنفس بالدرجة نفسها، والأهمية ذاتها. ولا يشذ عن ذلك، “تعليق” طهران المفاجئ أمس، على قصف القاذفات الروسية الاستراتيجية مواقع داخل سورية، انطلاقًا من قاعدة همدان، وما استتبعه من تشكيك واشنطن؛ إذ لا تقتصر خلفية القرار، على ما أثاره من احتجاجات “معارضة” داخل النظام الإيراني، إنما يتعداه إلى ما هو أهم، ويصطدم بالموقف الأميركي، الذي رأى في النقلة الروسية تجاوزًا للضوء الأخضر الممنوح لها في الملف السوري، وما يتصل به من تفاهمات، لا يجوز ترجمتها إلى تحالفات أو محاور إقليمية – دولية، تتجاوز تأثيراتها حدود المنطقة، إلى أماكن “تموضع” القواعد الأميركية في الشرق الأوسط، وتمدد “الناتو” في أوروبا.
ما تشعر به الإدارة الأميركية، يتجاوز ما فجّرته من سجال علني، حول قانونية وشرعية “الإجراء الروسي” في همدان الإيرانية؛ إذ تُدرك أن عين روسيا على قاعدة “إنجرليك” التركية، حيث تبحث عن ممر إليها تحت غطاء مكافحة الإرهاب، وهو ما عبّرت عنه موسكو أكثر من مرة، ورفضته واشنطن. في حين أمسك رئيس الوزراء التركي، بن علي يلدريم، بالعصا من المنتصف، عندما ألمح (السبت) إلى أن موسكو لم تطلب استخدام “إنجرليك”، لكن استخدامها ليس حكرًا على الطائرات الأميركية؛ ما يوحي باستعداد أنقرة للسماح بدخول الروس إلى قاعدتها الجوية، التي أشرفت واشنطن على بنائها عام 1951، وتحتفظ داخلها بخمسين رأسًا نوويًا، وتبعد عن الحدود السورية نحو مئة كيلومتر. كما يأتي التلميح قبيل زيارة نائب الرئيس الأميركي، جو بايدن، إلى أنقرة خلال الأيام المقبلة؛ ما يُشير إلى مدى تدهور العلاقات بين الطرفين، وصولًا إلى الارتياب وانعدام الثقة.
تلك الرسائل بشأن التقارب التركي – الروسي، دشنتها واشنطن بـ “الورقة الكردية”، عشية قمة مصالحة “أردوغان – بوتين”، عبر الإيعاز إلى الاتحاد الديمقراطي الكردي (قوات سورية الديمقراطية)، بتخليص منبج الاستراتيجية من قبضة “داعش”، مع ما يعنيه ذلك، من اختراق أكبر كتلة “ديموغرافية” تقف أمام وصل “أقاليم” الجزيرة، عين العرب، عفرين، لإقامة فيدرالية صالح مسلم الانفصالية، “حزب العمال” فعليًا، على حدود تركيا الجنوبية، ثم أعادت أمس توجيه رسالة شبيهة، لكن إلى موسكو وطهران، وذلك بتحذيرها الأسد من استهداف قواتها، في تلميح لحمايتها الميليشيا الكردية، وكذلك بإسقاطها “هدنة” الحسكة، بعد ساعات من إعلانها، برعاية روسية – إيرانية، بين الطرفين؛ كي تؤكد حضورها سياسيًا وعسكريًا على الأرض، بصفتها الآمر الناهي لـ “البندقية الكردية” ووجهتها، وعدم السماح حتى باستخدامها “الموقت”، من قِبل موسكو أو غيرها، إلا بإذنٍ حصري من واشنطن، وبما يتوافق مع مصلحتها، مثلما حدث بتغطية الطائرات الروسية؛ لتقدم الميليشيا الكردية باتجاه الحدود التركية، إثر تدهور العلاقات بين موسكو وأنقرة على خلفية إسقاط طائرة السوخوي.
هكذا، يجد أردوغان نفسه محشورًا في الملف الكردي، وأكثر توجسًا من النيات الأميركية، تجاه أمن تركيا القومي، ووحدة أراضيها، وهو الملف ذاته الذي دفعه سابقًا إلى المصالحة مع موسكو، والتهدئة مع طهران، التي تشاركه الهواجس ذاتها حيال المشروع الكردي وارتداداته على أمنها القومي.
المفارقة، أنْ يبدو بشار الأسد، بعد اشتباكات الحسكة الأخيرة، وكأنه في خندق واحد مع أردوغان في مواجهة الانفصاليين الأكراد، الأمر الذي من شأنه أن يدفع بوتين إلى محاولة إحياء تحالف “موسكو – الأسد – طهران – بغداد”، لمحاربة الإرهاب، وضم أنقرة إليه بعدما فشلت محاولته السابقة قبل تدهور العلاقات، وبالاتكاء على مواقفه من محاولة الانقلاب الفاشلة، إلى درجة إشاعة وتسريب معلومات عن دور محتمل لعبته موسكو وطهران في تحذير أنقرة من عملية الانقلاب مسبقًا. بيد أن واشنطن لن تتساهل مع نشوء محور إقليمي دولي بعيد عنها، أو خارج سيطرتها.
لا شك في أن المحاولة الانقلابية عززت التقارب التركي مع روسيا، ومع إيران إلى حد ما، كما أعادت ترتيب “الملف الكردي”، في الحسابات التركية، كأولوية تتعدى “داعش والأسد”. وتُشكّل تهديدًا مُباشرًا للأمن القومي، وتحظى بشبه إجماع وطني بين مختلف الأطراف التركية، وعلى رأسها الجيش؛ ما يساعد على تخفيف حدة التوتر والاحتقان التي سادت البلاد في أعقاب الانقلاب الفاشل؛ لذا، لم يكن مستغربًا أن تختلف نبرة التعاطي السياسي مع الملف السوري، حيث تراجعت أهميته إلى المرتبة الثانية، وربما بالتوازي مع “داعش”، على الرغم من خطورة كليهما على الأمن القومي التركي، لكن ذلك لا يعني أن الموقف تبدل جذريًا، أو أن النقاش حُسم داخل الحكومة التركية حول عقدة بقاء “الأسد”، وهذا ما يُفسّر على الأرجح تضارب تصريح رئيس الوزراء التركي، بن علي يلدريم، بقبول “الأسد في مرحلة انتقالية”، مع ما أعلنه وزير خارجيته أوغلو برفض بقائه خلال تلك المرحلة.
وفي المقابل، بدا أردوغان كمن ينأى بشخصه، عن إعلان موقف حيال “الأسد” منذ لقائه بوتين، باستثناء ما أعلنه متحدث رئاسي، بأن الموقف التركي لم يتغير من رحيل بشار الأسد، وهذا “النأي بالنفس” يمُكن تفسيره من باب المرونة الجديدة التي تحاول أنقرة إظهارها، بالتزامن مع استمرار تشددها العسكري، الذي بدأ بمعركة فك الحصار عن حلب، وما حمله من تمسك تركيا بأوراق قوتها على طاولة المفاوضات.
عمومًا، لا يستطيع أن يذهب أردوغان أبعد من رئيس حكومته “يلدريم”، أي القبول بالأسد خلال مرحلة انتقالية، لحسابات أوسع تتعلق بتحالفات المنطقة، وشكلها المستقبلي. لكنه يرغب في أن يكون لتصريحه ثمنًا سياسيًا، أو أنه مؤجل لما بعد اجتماعه المرتقب بـ “بايدن”، وما يُمكن أن يفهمه من طلاسم مواقف إدارته تجاه تركيا، وفي المنطقة. عدا كونه يعلم أن بقاء “الأسد” هو عنوان لاستمرار الصراع على سورية، تمهيدًا لإعادة توزيع وتدوير المصالح على امتداد المنطقة، أو إعادة رسم خرائطها، وهي عملية لا تنفع لتحريكها دعوة يلدريم موسكو وأنقرة وطهران وواشنطن (أمس) لفتح صفحة جديدة، ولن تبدأ جديًا زمن أوباما، كما لن تنتهي بعد مغادرته البيت الأبيض بزمن قصير، ما يعني أن “الخراب” السوري مستمر، حتى إشعار آخر.