تحقيقات وتقارير سياسية

مئات الحالات الحرجة في مضايا والهدنة غطاء سياسي للتغيير الديموغرافي

يعاني نحو 40 ألف شخص في مضايا ظروفًا إنسانية بالغة البؤس؛ نتيجة الحصار المفروض على المدينة الصغيرة بريف دمشق منذ أكثر من عام ونصف العام، وعلى الرغم من توقيع اتفاق الهدنة المعروف باسم “المناطق الأربع” وقبول المعارضة المسلحة بالخروج من الزبداني، مقابل وقف الحرب التي يشنها النظام وميليشيات حزب الله اللبناني على المنطقتين، وإخراج الحالات المستعصية، وإدخال المساعدات الإنسانية والطبية، إلا أن النظام والميليشيات المساندة له، خاصةً حزب الله اللبناني، استمر في فرض حصار خانق على المدينتين؛ ما أدى إلى وفاة أكثر من 50 شخصًا جوعًا، إضافة إلى تفشي العديد من الأمراض المستعصية، والتي تعجز الإمكانات الطبية المتواضعة عن توفير علاجات ملائمة لها.

 

وهو ما أكده حسام المضايا، مدير المكتب الإعلامي (الهيئة الإغاثية الموحدة في مضايا والزبداني)، لـ (جيرون) بالقول: “الوضع من سيئ إلى أسوأ، المواد الغذائية شبه معدومة، وفي حال توافرها فأسعارها مُرتفعة جدًا، اليوم وصل سعر كيلو الطحين الواحد إلى أكثر من 7500 ليرة سورية، الناس هنا بدأ ينتابها الخوف من عودة شبح الجوع الذي أودى بحياة العشرات، مرّ أكثر من 110 أيام على دخول آخر قافلة مساعدات إلى المدينة، ولدينا وعود بإدخال معونات جديدة قبل نهاية الشهر الجاري، لكن لا شيء مؤكد حتى اللحظة”.

 

الوضع الطبي داخل المدينة

قال الطبيب محمد درويش، مسؤول النقطة الطبية في المدينة المحاصرة، لـ (جيرون): “لدينا مئات الحالات المستعصية، بينها 25 حالة إصابة بالسحايا، لا يقل عن 75 طفلًا يعانون أمراضًا كثيرة، منها ضعف النمو والكساح، علاوة على السحايا، وكثير من الحالات انتظرت لأسابيع قبل الموافقة على إخراجها منذ ثلاثة أيام، بينها حالة الفتاة نسرين الشماع (22 عامًا)، ولا نعرف بالضبط مرضها، حيث يشير التشخيص السريري إلى التهاب سحايا فيروسي، أو نزيف في الدماغ، وحالتها تضاعفت بشكل كبير؛ نتيجة العجز في الإمكانات الطبية، إذ إنها فقدت بصرها وأصيبت بشلل في طرفها الأيسر، إضافةً إلى معاناتها نوبات هلوسة، وفقدان موقت للنطق”.

 

وبدوره أكد المضايا أنه لا يوجد في المدينة سوى نقطة طبية واحدة، بإدارة طبيب بيطري، ويساعده طالبا طب لم يُكملا دراستهما، مضيفًا: “لا يوجد أي طبيب اختصاصي، والإمكانات محدودة للغاية، كل ما لدينا داخل هذه النقطة مجرد سريرين، وبعض المعدات البسيطة جدًا، وفي ما يتعلق بالأدوية، يوجد بعض المسكنات وما تبقى فغير موجود، لدينا أكثر من 500 حالة مرضية، عدد كبير منها أطفال، أكثر من 75 طفلًا بعمر سنتين إلى ثلاث سنوات، لم يتمكنوا من السير حتى الآن، ولم تنبت أسنانهم بسبب نقص الكالسيوم، إضافة إلى السحايا، والكساح، وبدأ في الآونة الأخيرة يظهر مرض عجز النمو، أو (التقزم) لدى الأطفال؛ بسبب سوء التغذية ونقص في البروتينات والفيتيامينات، وأيضًا الأمراض النفسية؛ نتيجة أوضاع الحصار، وتم تسجيل أكثر من 12 محاولة انتحار في المدينة؛ بسبب الاضطرابات النفسية”.

 

المنظمات الدولية عاجزة أم شريكة

تُجمع المعارضة السورية على تقاعس المجتمع الدولي والمنظمات الحقوقية والإنسانية عن تحمل المسؤولية تجاه ما يجري في سورية، ما أدى في كثير من الأحيان إلى ردود أفعال قاسية تجاه تلك المنظمات، وصلت في بعض الأحيان حد اتهامها بأنها شريكة في الجريمة، وفي هذا السياق، قال درويش: “لم يبق أحد لم نناشده من أجل إنقاذ الإنسانية التي تموت يوميًا في مضايا، الأمم المتحدة، الهلال الأحمر، الصليب الأحمر، الأوتشا، منظمة الصحة العالمية، وغيرهم، ولكن كل تلك المنظمات ليس لها أدوات تنفيذية، فيكون ردهم دائمًا بأنهم محكومون باتفاقية المناطق الأربع (الزبداني مضايا، كفريا والفوعة)، وبالتالي لا يمكن إخراج أحد من مضايا إن لم يقابله إخراج حالات من كفريا والفوعة، وكذلك لا يمكن إدخال المساعدات إلى مدينتنا إلا في حال دخولها إلى المدينتين الأخريين”، مضيفًا: “أعتقد أن هذا أسلوب غير إنساني وغير أخلاقي، فمن غير المعقول تسييس الحالات الإنسانية بهذا الشكل، نحن ليس لدينا أي مشكلة بإخراج حالات مرضية من البلدتين دون أن يخرج أحد من مدينتنا، إن لم يكن لدينا حالات تستدعي الإخراج، هذه أمور إنسانية بحتة، ربما من المفهوم ربط الأمور العسكرية والسياسية، أما حالات إنسانية بهذه الدرجة من القسوة فأعتقد أن الأمر فاق كل التصورات، ويفتقر إلى أبسط المعايير الحقوقية والأخلاقية”، في حين عدّ المضايا الأمم المتحدة “شريكة بالجريمة”، لأنها باستطاعتها الضغط على من يحاصر المدينة ليقبل بإدخال المواد الطبية والغذائية، ولكنها لم تفعل ذلك، مضيفًا: “يبدو أن المجتمع الدولي مهتم (بكفريا والفوعة) أكثر من اهتمامه بالطفولة التي تموت يوميًا في مدينتنا على مرأى من العالم أجمع، فمصير من هم في (كفريا والفوعة) أهم من مصير عشرات، بل مئات الألوف من المحاصرين في سورية، وليس في مضايا وحدها”.

الهدنة كغطاء للقتل

أنهت الهدنة الموقعة بين فصائل المعارضة المسلحة وإيران، وكيلةً عن النظام، حالة الحرب في الزبداني جزئيًا، إلا أنها لم تنه معاناة الناس المتواصلة بفعل الحصار المستمر، ما جعل بعض الناشطين داخل المدينة المحاصرة يرى أنها مجرد مناورة من النظام وحلفائه الإيرانيين؛ لتحقيق ما عجزوا عن تحقيقه بالحرب، وهنا قال المضايا: “أعتقد أن الهدنة أصبحت غطاءً لاغتيال الحياة واستمرار القتل، والدلائل على ذلك كثيرة، آخرها حالة الطفلة (غنى)، أكثر من 14 يومًا من المعاناة والألم، ولم تبق منظمة إلا وتواصلنا معها؛ لإيجاد حل، وكان الرد دائمًا أنه لا يمكن إخراجها إلا بوجود حالة مماثلة داخل كفريا والفوعة، إلى هذا الحد من الانحطاط الأخلاقي وصلنا، طبعًا تم إخراج (غنى) قبل أيام مقابل إخراج 14 حالة من كفريا والفوعة”، مضيفًا: “المطلوب إنهاء الحصار، وليس إدخال المواد الطبية والغذائية، نحن لا نريد مساعدات من أحد، وحتى المعونات التي تدخل هي مجرد ذر للرماد في العيون، فهي لا تحتوي على أي بروتينات أو فيتامينات؛ ما يعني استمرار حالات سوء التغذية، على أحد ما في هذا العالم أن يسمعنا، ببساطة نريد إنهاء الحصار، وسيرى الجميع أن المحاصرين هنا باستطاعتهم إدارة حياتهم دون مساعدة أو صدقة من أحد”، الأمر الذي دعمه درويش بالقول: “بالنسبة لنا الشيء الوحيد الذي نريده هو إنهاء الحصار، ودخول أطباء اختصاصيين مدعومين بالأجهزة والأدوات اللازمة لعلاج الحالات الموجودة في المدينة، فنحن وحتى اللحظة نعالج الحالات التي تأتينا بناءً على ما راكمناه من خبرة ميدانية خلال السنوات الماضية، وبالتالي، جوهر المسألة هو فك الحصار وتمكين المدينة من علاج أبنائها بداخلها وأن لا يتحول علاج الأمراض إلى ذريعة لتهجير من تبقى من أبناء البلد”.

التغيير الديمغرافي هدف النظام وحزب الله

أكد المضايا أن النظام وحزب الله يسعيان، من خلال حصار مضايا والزبداني، إلى تحطيم إرادة الأهالي وإخضاع المدافعين عن المدينتين لشروطهما، وقال: “يبقى الهدف الرئيس الاستيلاء على المدينتين بشكلٍ كامل، الآن يمكن القول بأن مدينتي مضايا والزبداني، هما بحكم المُباعتين لحزب الله وإيران، فليس سرًا أن الأخيرة تريد ضم مناطقنا لمناطق نفوذ الحزب في لبنان، واتفاقية الهدنة جاءت في هذا السياق؛ إذ نصت على إخلاء مقاتلي الزبداني، و الأمر نفسه بالنسبة لمضايا، ما يعني تغيير ديمغرافي بأبعاد سياسية كبرى، وهو أكثر ما يتخوف منه الأهالي، ولا سيما بعد إخلاء مناطق العقبة والبديري والسلطاني في مضايا، الأهالي هنا متخوفون من مصير الترحيل الجماعي الذي لا يتمناه أحد”.

وأخيرًا، طالب المضايا في نهاية حديثه، كل فعاليات الشعب السوري، وفي مختلف أماكن وجودهم، التحرك ومحاولة فعل شيء؛ لتخفيف معاناة المحاصرين، وقال: “على السوريين في كل مكان تحمل مسؤولياتهم تجاه أبناء شعبهم، لا يجوز السكوت والركود أمام مأساة بهذا الحجم، عليهم إيصال صوت المحاصرين إلى العالم، عليهم الضغط على المنظمات الإنسانية والمدنية، فالصمت في هذه الحالات جريمة، بإمكاننا فعل الكثير، والإعلام سلاح خطير جدًا، وعلينا أن ندرك كيف نستغله ونستخدمه لنصرة قضايانا وإقناع العالم بعدالتها”.

الوسوم

مقالات ذات صلة

إغلاق