أدب وفنون

الشارع الأسود

في شارع الحمراء أتمشى، يحاول وجهي أن يلتقط خيوطًا أليفة في الظلال، يكومها في الهواء، صانعا منها عينًا ليرى التفاصيل الجاثية فوق الرمل منذ زمن طويل.

علني أنسى، أشتري علبة سجائر من بائع دخان سوري يفرد “كراتين” الدخان في مدخل إحدى البنايات، أصابعه تعقد أكياس النايلون عقدتين، يلتفت يمنة ويسرة، بائع يتقن الهرب والتخفي أكثر من مهنة البيع ذاتها، الهرب يجري في عروقنا منذ خلقنا وأطلقوا علينا الأسماء، ليهربوا بها -أيضًا- إلى عالم ربما يكون أجمل.

 

أهرب وأصير غيري أمام بائع الكشك وسط شارع الحمراء، أتصفح الجرائد الموزعة فوق الرفوف، العناوين أعرفها، حفظتها عن ظهر قلب، ألتفت إلى الشارع ثم أقرأ عنوانًا آخر لم أجده في الصحف الصباحية:

طفل حاف، يقلد فراشة وقفت تتمرأى أمام واجهة إحدى المحلات.

أختبئ من سؤالي مرة أخرى، وأطارد شهوة تتبعني، فنجان قهوة في مقهى، كفيل أن يرد السؤال إلى عائلته، وقلبي إلى كرسيه الهزاز.

يلبس الناس الثمين والنفيس للحجر والهواء والمارة، ليجلسوا في مقهى يطل على الرصيف، وبكل ترتيب يحدقون في بعضهم، يتبادلون الأحاديث النظيفة، يشمون عطورهم ثم يميلون قليلًا جهة الشمس؛ ليطلبوا بخواتمهم المرصعة فنجان “إسبريسو”، أو قهوة تركية.

 

يقع فنجان قهوة فوق سروال أحدهم، فينتبه إلى ثوب بائعة الورد التي مرت على عجل، ومخافة أن يشبهها، صاح في وجهها، وأمر المقهى، الكراسي، الطاولات، والمارة أن يديروا ظهورهم إلى الوراء، ريثما يعود وجهه إلى السطح كما كان، فهو لا يطيق الغرق، ولم يجرب يومًا أن يرى كيف تعيش المخلوقات في الأعماق؟

يقترب السؤال ليريك الشجرة، لكن الريح تتحرك أكثر فجأة، الريح أمي.

 

ما الفرق بيني وبين الأكف الممدودة فوق حصيرة ممزقة، أول شارع الحمراء، أولئك الذين ألفَ حجر الرصيف وجوههم وبحة أصواتهم، توسلاتهم الملونة مع كل وجه يصادفونه.

سأجيب وكأني ليرة في جعبة أحدهم، حارةً أرتطم في العتم وأجوب شوارع المدينة؛ بحثًا عن أخوات لي، ثم وعند الليل يتدافعن كموجة في درج محل لبيع الشاورما أو العصير، سأكون مع الليرات اللواتي خصصن لقوارب اللجوء، وستصير روحي مجدافًا، وأنا أدخل جيب المهرب.

 

ما الفرق بيني وبين الأطفال الراكضين نحوي على طول شارع الحمراء، جئت لألقي قصيدة عن الرمل العالق بكعب حذائي ليلة حب، عن الجوع بسلامياته النحيلة، المتربص خلف أزقتنا، عن اليباس ذي الشفاه المزمومة، يغطي ليلنا بعد كل قبلة بسؤال وحيد: هل هذه هي الحياة؟

في حقيبتي قصائد ومفاتيح لبيوت، تركها أصحابها على عجل من الخوف، وأحمر شفاه داكن، مرطب لجلد الحرب فوق جلدي، هوية شخصية كتب فوقها كل شيء عني، عدا أن ليدي شكل صحون قديمة، مسطحة بما يكفي ليخفي وجهها حتى الغبار.

 

في حقيبتها الملتفة على خصرها، مشط أسود بأسنان مكسورة.

في يدي سلامات، وفوق حضني أحضان، على أن أوصلها إلى أصحابها.

في خطواتهم أناس مفقودون، وأذيال مقطوعة ترتجف وحيدة، إنهم مسرعون مثلي.

يدي ممدودة أيها الرب، منذ ولادتي وانا أمد يدي وعنقي خارج الأرجوحة، خارج النافذة، خارج الأسوار، كنت أرى في القمر طفلًا حزينًا، أردت أن ألعب بفمه وأشد عينيه؛ كي يبدو ضاحكًا.

 

  • أبحث عن هواء

والخبز؟

  • تركته في القمحة ينتشي.

أضيع عنوان صديقي النازح..

تضيع فردة حذائها أمام سيارة لم تستطع اللحاق بها.

العالم فوق خشبة مسرح، على يمينه جلسنا نحتسي النبيذ وندخن، نحكي عن الحرية وحقول القطن والراعي الذي ودع بقراته، فاتحًا لهنّ باب الحظيرة قبل القصف.

 

على الطرف الآخر أناس مثلنا، لهم عيون وأنوف وآذان، صدقوني هم مثلنا تمامًا، لقد كانوا يتحدثون -أيضًا- عن شبابيك أوصدوها بإحكام، تجسسوا على بيوتهم من البعيد ومضوا، عن أطفال تسلقوا الأشجار وبقوا ليلة، ليليتين يلعبون بأصابع أقدامهم المغمضة.

ما الفرق بين ضياعي وضياع العيون الحذرة على طول الطريق في شارع الحمراء.

 

المشاة، السيارات، الكلاب الفخمة، القطط المتشردة، أوراق الشجر المتساقطة، أعقاب السجائر، تعبر جسد الطفل النائم على الأرض، وكأنها لم تر شيئا، أو كأنها ارتطمت بحجر، ثم تابعت طريقها بعجلة وتأفف. غريبة أنا أشتهي تحية حارة تعيد إلي كينونتي، جئت لألقي قصيدة عن النهر، عندما يغير فكرته عاجزًا عن قول ما يريده، فيرفده نهر آخر، روافد الأنهار.

 

السياح المارون بالقرب منا، أخذوا صورة جماعية لكل هذا قبل أن يدخلونا الى السوبر ماركت ويشتروا لنا الآيس كريم بنكهة الفانيلا والشوكولا.

الوسوم

مقالات ذات صلة

إغلاق