يكشف تأمل المدونة الروائية السورية خلال السنوات الست الأخيرة، أن ما كُتب في زمن القتل والتدمير والقمع والاحتراب يزيد على الثلاثين رواية بقليل، وأن يعيش الكاتب (الروائي – القاص – الشاعر) الحدث ليرويه، هو تحدٍ بالغ الخطورة، ومجازفة قد تسقطه معها في متاهات الذاتي وتأثيراته. فالكاتب -هنا- أمام مواجهة حقيقية بين لحظة إبداع إنساني ولحظة توثيق تاريخي، كلاهما يجره إلى منطقته الخاصة.
ويعد سؤال علاقة النص الإبداعي بالواقع من أقدم الأسئلة التي شغلت الكتّاب والنقاد، على حد سواء، فكيف إذا كان السؤال لكتّاب شباب، كتبوا باكورة أعمالهم الروائية، وهم يعيشون في الداخل السوري تحت القصف؟
صحيفة “جيرون” التقت ثلاثة روائيين سوريين من جيل الشباب، سائلة إياهم: كيف تكتبون عن الأمكنة وآلام وأوجاع الناس، وأنتم تعيشون بينهم تحت القصف؟ وما الذي يمكن أن يقوله الروائي في زمن الحرب والدمار والقتل والتهجير؟ وهل تنقذنا الرواية من هذه الفوضى والخراب العميم؟ وكيف ترون الأدب كشهادة حية عن اللحظة التاريخية؟ وبرأيكم هل تستطيع الكتابة الإبداعيّة خلق أصوات مناهضة للظلم في أي مكان من العالم؟ فكان هذا التحقيق.
الشرقي: أطالب بحياة عادلة عبر الكتابة
وسيم الشرقي، صاحب رواية “الجاجب” (دار الساقي – بيروت 2015)، كان أول من التقيناه، فأجابنا قائلًا: “قد يكون الكلام عن دور مهم للأدب، وتحديدًا الرواية في هذه الأيام ممكنًا، وربّما مطلوبًا، ولكن هل الكلام عن أي دور حقيقي للكتابة الروائية أو الأدبية، هو كلام معقول يشابه هذا الواقع المحبط الذي نعيشه؟ أعتقد أن فعل الكتابة اليوم هو المنفذ الفردي الوحيد المفتوح وسط جدار الظلم الشاهق الذي نعيش في ظله. لا ضير من تكرار الكلام التاريخي عن دور الأدب، وفنّ الرواية، في توثيق لحظات التحوّل التي نعيشها، لكن -في أشدّ اللحظات تشاؤمًا- أرى الكتابة -اليوم- منفذًا لا بدّ منه؛ للتحقق من استمرارية قدرة دماغي على العمل، وعواطفي على التجاوب، وامتناع قلبي عن التبلّد”.
يتابع الشرقي حديثه: “داخل سورية اليوم تُقصى الفنون والآداب، إلى مساحات أقل في سلّم الأولويات؛ الأولوية لوقف القتل، ولتأمين السكن، والغذاء، والدواء؛ لذلك يبدو الحديث عن دور ملموس للأدب، أو الرواية في سورية اليوم، ضربًا من المبالغة الرومانسية، لكن، وسط هذا كلّه، وسط هذه الصورة السوداء المحبطة، لا أستطيع إلّا أن أطالب بمزيد من العدل والقدرة على المطالبة به، وهذه هي الرغبة التي تسمح لي الكتابة بملامستها بشكل شبه يومي، أن أطالب بحياة عادلة -عبر الكتابة- وكأني أفكّر بصوت مرتفع. بالمجمل ليست كتابة الرواية كتابة انفعالية، لا بدّ من أن يغلب التروّي والصبر على تناول الراوي حياة شخصياته، وإلّا قدّمها مبسترة دون طعم أو روح حية”، ويؤكد مُحدثنا أنه “في الحالة الطبيعية يجب أن يحظى كاتب الرواية بالوقت الكافي للكتابة؛ ليتملّك شخصياته وأحداثه، وليكون قادرًا على إظهار فعل الزمن في الناس والعالم المحيط بهم”؛ معقبًا: “لكنّ واقعنا اليوم يتغيّر بسرعة تفوق قدرة أي بشري على رصده، وهذا الأمر ينسحب على مأساتنا في سورية، كما على التغيرات الكبيرة التي يشهدها العالم من حولنا. الكتابة في هذا الوضع ليست عادلة أيضًا، لكنّها -بالتأكيد- أقرب إلى تحقيق العدل من كل الخيارات الظالمة المفروضة علينا”.
العثمان: الكتابة تحت خطر الموت منحتني الحرية
بدوره يرى الشاعر والناقد والروائي الشاب محمد العثمان، صاحب رواية “حَربْلِك” (دار فضاءات – عمان 2016)، والحاصل على جائزة “الشارقة للإبداع العربي في مجال النقد” العام 2016، عن كتابه (البعد الثاني/ قراءة في آفاق الشعرية العربية)، أن “الكتابة الروائية -بشكل عام- هي عالم موازٍ لعالمنا المعاش، لما تمتلكه من مقومات حيّة ومنتجة، فحين يسعى الكاتب إلى أن يخلق عالمًا جديدًا وخصبًا في رحم الحرب والموات، ما ذلك إلا محاولةٌ منه لتخفيف آلام هذه الحرب على من يعيشها ويعاني ويلاتها؛ لذلك هي تصعيد قويٌّ للتعبير عن رغباتنا، ثم التنفيس عنها، لكن سرعان ما نعود بعد الانتهاء من قراءة العمل الروائي إلى الحقيقة والواقع، وعلى هذا يمكننا القول: إن الرواية هي تعبير حقيقي لهموم الشارع وأحلام المجتمع بالخلاص، ويمكن أن تكون صوت الحقيقة الغائب، وغير المسموع، بجانب صوت الرصاص والجنون”.
وعن “الكتابة تحت القصف”، يقول العثمان: “في هذه اللحظة تكون الرؤيا في أصدق تجلياتها، وتسعى بك التجليات لقول كل ما هو مكبوت في دواخلك، ومن ثم الصراخ دون توقف”، مؤكدًا أن “الكتابة -وأنت تحت خطر الموت- تمنحك الحرية، تمنحك الصدق والإخلاص لتلك اللحظة بمأسويتها، حيث لا حواجز أو موانع تقف أمامك. إن أصدق ما كتبته في حياتي -شعرًا أو سردًا- كان في تلك اللحظات”.
وعن مدى قدرة الكتابة الإبداعيّة على خلق أصوات مناهضة للظلم، يؤكد مُحاورنا أنه “لولا ذلك، ما أهمية أن نكتب ونجرب وننزف الكلمات، الصوت الحقيقي الذي يحمل في طياته نبض الشارع وتوجساته؛ ليوجه بعد ذلك هذا النبض بشكل صحيح، بالتأكيد سيخلق دائرة للضوء تطرد شيئًا فشيئًا ظلامية الاستبداد والظلم. كثيرة هي المرات التي غير الأدب بها مسارات التفكير، وخير شاهد ما فعله مكسيم غوركي وتشيخوف في روسيا”. ويختم العثمان قائلًا: “حين يعي المجتمع أهمية الأدب والفن ودوره في الحياة، يكون لهذه الأهمية نفوذ عظيم في خلق مجتمعات قادرة على الوقوف بوجه الظلم والاستغلال والتهميش”.
شحاده: خلق أسئلة مغايرة لما توثقه الكاميرات
من جهته يقول الروائي الشاب سومر شحاده، صاحب رواية “حقول الذرة”، الفائز عنها بجائزة “الطيب صالح العالمية للإبداع الكتابي”، في نسختها السادسة هذا العام: “لا أعتقد أنّ الروائي من الجنون أن يأمل من نصه -مهما كان مأخوذًا بهِ- إنقاذنا من خراب محقق؛ إن كان الأدب يتصدى لمهمة جماليّة، فإنّه، في هذه السنوات السوداوات، بات على تضاد مع وظيفته، يبدو الأدب -بالمعنى الواسع للكلمة- منفيًّا عن نفسهِ، مهما حاولنا إخراج الخراب إخراجًا إبداعيًّا وجماليًّا، سيبقى قاسيًّا، خصوصًا بالنسبة لمن عاش كلّ شيء، سيبقى قاسيًّا، ومهينًا إلى حد ما، أن تصير كلّ تلك الدماء وتلك البلاد المنهارة، حبرًا على ورق؛ لا، بل تجميل هذا الخراب قد يصبّ -في النهاية- في مصلحة صنّاعه؟”. ويرى شحادة أن “الروائي لا يملك ما يقول”، متابعًا: “ليست وظيفته أن يقول أساسًا، النص هو من يقول، الرواية هي التي تتحدث، الروائي غير موجود، إنّه منشغل بطريقة تنجيه -بالمعنى النفسي- من تبعات ما يحدث، الروائي كائن انتهازي بهذا المعنى، لكن مسعاه في النهاية نص جهوري”.
ويؤكد الروائي الشاب لصحيفة “جيرون” أنه “من الصعوبة البالغة الكتابة عن أمكنة أنت مغادرها، وعن أناس تعرفهم بشكل جيد، لكن محتم عليك أن تأخذ مسافة عنهم، لأنّهم سيغادرون، أو ستغادر أنت. إنّ الكتابة بالنسبة لي باتت تأخذ شكل الرحيل، وتنحو منحى الشجن، على الرغم من عدم قدرتي -بعد هذه السنوات- على تخيّل وجودي خارج الأمكنة التي، للأسف، قد غادرت بمغادرة أهلها، أو بانهيارها؟”.
وجوابًا عن سؤالنا: كيف يرى الكاتب/ الروائي الأدب كشهادة حية عن اللحظة التاريخية؟ يجيبنا سومر شحادة، قائلًا: “كثيرًا ما يطالب الأدب بأن يكون وثيقة. كلّ شيء واضح وضوح الشمس، ماذا نوثق؟ الأفلام تملأ الدنيا. أعتقد أنّ السؤال ينبغي أن يكون بأي شكل سنروي ما يحدث، وربما من أين نبدأ؟ في المحصلة، مطلوب من الرواية اليوم، لا أن توثق، وإنّما أن توجه أسئلة مغايرة لما توثقه الكاميرات، أن تقدم رؤى، إن كان جائزًا أن نطلب شيئًا من نصنا، فإنّه الرؤى”. أما عما تستطيع الكتابة الإبداعيّة تقديمه، فأرى أن السؤال ليس ما تستطيع الكتابة تقديمه؛ الفكرة ببساطة، أنّ الكاتب منوط بهِ دور، وهو لا يستطيع التخلي عن دوره. على الكاتب أن يكتب، وعلى العالم أن يمضي إلى خرابه؛ خجلًا أو غير مكترث. لا يهمّ، الكتابة أولًا ودائمًا. لا أعرف ولا أستطيع فعل شيء آخر!