تراجع سلّم الأجندة التركية في سورية من مطلب إسقاط النظام، ومناهضة أي حل سياسي لا يتأسّس على ذلك، إلى القبول ببقاء الأسد في المرحلة الانتقالية، وحصر المطالب التركية بالمحافظة على وحدة سورية، والمحافظة على الدولة، وقيام حكم تمثيلي يشمل كل مكوّنات الشعب السوري، مع التأكيد أنه لا وجود للأسد في مستقبل سورية (بحسب ما صرّح رئيس الوزراء التركي على بن يلدريم أخيرًا).
طبعًا، ينطوي هذا الكلام على تراجع واضح وعلني، يمكن ضمه إلى سلسلة التراجعات التي من ضمنها، مثلًا، الحديث عن أن “حلب خط أحمر”، والذي أسهم، مع دعوات أخرى من جهات أميركية وأوروبية وعربية، في تنمية “توهّمات” السوريين بإمكان إسقاط الأسد، أو بإمكان إيجاد حاضنة عربية وإقليمية ودولية تدفع إلى إسقاطه، عن طريق الضغوط السياسية أو العسكرية، الأمر الذي انطوى على مخاطرات سياسية وعسكرية خطِرة، لم تفد السوريين بقدر ما أضرت بهم، وبمسار ثورتهم.
وفي ما يتعلق بالموقف التركي، فمن حق الجميع التساؤل عن معنى وجود الأسد في المرحلة الانتقالية، ومثلًا، فهل هذا يتضمن صكّ براءة للنظام من كل الجرائم والكوارث التي أحاقها بالشعب السوري طوال السنوات الماضية؟ ثم ما فترة المرحلة الانتقالية، أو ما المعنى الزمني لمصطلح مستقبل سورية؟
والفكرة أن هذا الكلام لم تتم، على الأرجح، مناقشته مع مكونات المعارضة، مسبقًا، وأنه يأتي في سياق تقديمات تتعلق بإعادة تركيا لتموضعها في الإقليم، إزاء القوى الأخرى (روسيا وإيران وإسرائيل)، من مدخل الصراع السوري، هذا، إضافة إلى أن هذا المتغيّر في الموقف التركي لا يتم على طاولة المفاوضات، أي أنه يقدم كسلفة، من دون تقديم الأطراف الأخرى أي تنازلات.
ليس القصد هنا تسجيل المواقف على تركيا؛ فهذه الدولة اكتوت، أيضًا، بتداعيات الصراع على سورية، إلى درجة أن هذا الصراع انتقل إلى داخلها (عن طريق المسألة الكردية والعمليات الإرهابية والتوجّس العلماني – الديني والوضع الاقتصادي، وكتلة كبيرة من اللاجئين السوريين) بذات القدر، ربما، الذي أضحت هي به بمنزلة عامل داخلي في سورية.
هكذا، فإن مقصدنا هنا، هو لفت الانتباه إلى تعقيدات القضية السورية، وإلى المداخلات الخارجية التي تثقل عليها، والتي باتت بمنزلة معطى داخلي، بحيث أنها باتت تؤثر في الصراع السوري وتتأثر به، بهذا المستوى أو ذاك، وهذا ينطبق على تركيا تحديدًا (كما على إيران وروسيا ودول الخليج والدول الأوروبية)، وربما أن الولايات المتحدة -هنا- هي الوحيدة التي تبدو بمنأى عن ذلك.
ومن البديهي أننا نقصد هنا الإقرار بحق تركيا، كدولة إقليمية كبرى، أن تراجع سياساتها، وأن تهتم بما تراه مصالحها، وأن ترى ما تعتقد أن له الأولوية في أجندتها، وأن تُراجع الأخطار والتحديات المحيقة بها، خاصة بعد كل ما تكبّدته من جراء الصراع السوري، ومن ضمنه استقبالها أكثر من مليوني لاجئ، واحتضانها المعارضة (السياسية والعسكرية والمدنية)، لكن من حق المعارضة، أيضًا، بل يتوجّب عليها، بالقدر ذاته، أن تقول كلمتها تبعًا لمصالح شعبها.
على ذلك يفترض من تركيا أن تُدرك أن مطالبتها الآخرين تفهّم التحولات والمراجعات السياسية التي تقدم عليها، يفترض منها -في المقابل- أن تتفهّم حق الآخرين في التعبير عن مواقفهم، ومن ضمنه تمسّكهم بأجندتهم وبمصالح وحقوق شعبهم؛ فمن حق المعارضة، مثلًا، أن تُعبّر صراحة عن تمسكها بمواقفها المبدئية في الشأن السوري، لأن هذه مهمتها، ومن حقها أن تبدي تخوّفاتها من التحولات الجارية في مواقف الدول الصديقة، سواء عن لا مبالاة، أم بضغط من التعقيدات الناشئة، أم عن نتيجة العجز في الإمكانات، والمعنى أن المعارضة السورية معنية بالتصرف -بكرامة- إزاء كل ذلك، والكفّ عن التصرف -بدونية- كأن شيئًا لم يستجد، في مواقف هذه الدولة أو تلك، كما الكف عن سياسة المجاملات المجانية التي تضعف احترام هذه الدول لها، وتفقدها ثقة شعبها بها.
ومعلوم أن هذه ليست المرة الأولى التي تواجه فيها المعارضة السورية تحولات كهذه، إذ سبق أن حدثت انعطافات كثيرة في مواقف “الدول الصديقة”، وظهرت معادلات جديدة، علاوة على التدخلات السلبية، التي تفرض إملاءات معينة على المعارضة، إن من جهة تحديد المواقف السياسية أو في الدفع نحو تحركات عسكرية معيّنة، أو حتى في ترتيب هيكليتها، لا بحسب ما يخدم أجندة المعارضة، أو يقع وفق حسابات مواجهة النظام، وإنما بحسب ما يخدم هذه الدولة الداعمة أو تلك.
في الختام مطلوب من المعارضة أن تقول لشعبها ما يجري حقًا، وبكل جرأة ووضوح، دون تبعية لهذه الدولة أو تلك، وتاليًا أن تُحدد استراتيجيتها الكفاحية، السياسية والعسكرية والتفاوضية، وما هو ممكن وما هو غير ممكن، على كل الصعد؛ لأن هذه مسؤوليتها إزاءه، ولأن هذا وحده ما يُكسبها احترام الدول الحليفة أو الصديقة، وما يعزز مكانتها واحترام شعبها لها؛ بل إن هذا ما ينبغي أن تتفهمه تركيا وغير تركيا.