لا أرى وجوبَ الخوض في الموضوعات التي تأخذ أبعادًا جدلية مبالغًا فيها؛ لأن هذا الخوض كثيرًا ما يكون في خدمة الفكرة الجدلية التي بنيت عليها تلك القضية أصلًا، ذلك أن بعض القضايا تطرح فقط لأجل الجدل وما ينتجه من شقاق، لكنني شاهدتُ الصور التي تم تداولها من منبج، عقب خروج تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) منها، وقد كانت صورًا عادية، تتوافر في أي مجتمع محلي سوري مهما كان محافظًا، فكيف إن كان هذا المجتمع يمتلك أصلًا تلك الطبيعة المنفتحة نسبيًا، كما هو الحال في منبج!!
ما لم أستطع منع نفسي من الخوض فيه، هو أن الادعاء المُقدّم عن كون الصور (مصطنعة)، هو ادعاء مغرق في الغباء، لأنها كانت صورًا منتقاة بعناية في وضع استثنائي، وتحمل بعدًا سياسيًا واضحًا، لكنها لم تكن تُظهِر ما لا يمكن حدوثه في منبج.
أجزم أن المصور يمتلك آلاف الصور لآلافٍ من التفاصيل، كالأطفال والدمار والمقاتلين والمقاتلات، ولكنه يعرف جيدًا كيفية اختيار الصورة التي تخدم رسالته، رسالته التي نختلف أو نتفق معها، ولكنه برع في توجيهها، والعمل عليها وإعطائها الأبعاد المبتغاة من خلفها، ولربما لا يكون المصور هو الأساس، بل هي الجهة المتلقفة لتلك الصور، وهي الأقدر على قتل الحقيقة، أو وضع تلك الصور على منصة الإعلام السياسي.
إن ما يحدث في الصور من تدخين أو خلع للحجاب أو غيره، هي أفعال طبيعية ومكررة في ظل حكم (داعش)، أو في ظل أي تنظيم أو نظام اجتماعي أو أيديولوجي أو فكري، وتقع دائمًا تحت مظلة الحريات الشخصية أو الخصوصيات المجتمعية.
لنفكر في المجتمعات المحافظة، ولنفكر في المرحلة الجامعية على سبيل المثال لا الحصر، كل منا، وتحديدًا من كان من أبناء تلك المجتمعات أو مُتعايشًا معها، لا بد أن يجد في ذاكرته نماذج من الطالبات الجامعيات، اللائي كن يُغيّرن زيهن لحظة تجاوزهن خطوط المجتمع التي يحاول وضعهن ضمنها، وذلك في إطار موروث معين أكثر من كونه إيمانًا متجذرًا.
وعليه يمكنكم التفكير في أي فعل آخر، مما يندرج تحت الرغبات والحريات الشخصية، بعيدًا عن المبالغة، وبعيدًا عن كونه حدثًا طارئًا على المجتمع السوري، ويستحق كل هذا التوقف والجدال.
الغريب ليست الصور، وإنما ذلك الاستغراب الذي فاض إلى حدود تُجاوز المنطق والمعرفة بالمجتمع السوري، فأي عارف بالمجتمع ومعايش له، يعي تمامًا أن هناك عددًا كبيرًا من النساء المدخنات، وعدد أكبر ممن يُدخنَّ النرجيلة، وعدد أكبر ممن يرفضن كمًا هائلًا من التفاصيل، ولكنهن يعشن في أُطرها، ولا يعني ذلك -بالضرورة- الخنوع والاستسلام، وإنما تصالحًا مع بيئة كاملة محيطة، وعليه فإن تغييرًا ما سيحدث عند العيش في بيئة أخرى بلا شك.
كثيرون منا سيستغربون إن رأوا صورة لشخص يشرب الكحول في سورية، أو لنقل في المناطق الخاضعة لسيطرة قوى إسلامية “معتدلة ” أو “متطرفة “، لكن من يشرب لا يستغرب من نفسه، فهو يقوم بما اعتاد عليه، وليس ما ابتكره اليوم ليكون محلًا للاستغراب والحيرة.
إن كمًا هائلًا من التفاصيل اليوم، يُعمل عليها وبدقة وبراعة، تتعدى تلك الصور والجدلية المثارة حولها، بل هي تفاصيل تغوص عميقًا في بنية المجتمع؛ لتُخلخه بأبعاد عدة، كان النظام مؤسسًا لها، ولكنه لم يكن البارع الوحيد في تفعيلها وتعزيزها، الطائفية مثلًا.
يدرك المجتمع السوري -بعمومه- وجود الطوائف، لكن هذا الإدراك لم يكن عدائيًا على نطاق واسع، ولم يكن مُسيّسًا لدى عموم السوريين، وإذا كانت هناك فئات في سورية تتعامل مع الطائفية، بوصفها مصدر اصطفافٍ سياسي، فإن ذلك لم يكن هو الأكثر شيوعًا، ولم يكن عدائيًا تجاه طائفةٍ بعينها بقدر ما كان سياسيًا وسلطويًا، كذلك إذا كانت هناك أبعادٌ تحريضية وانتقامية للاصطفاف الطائفي في سورية، فإنها لم تكن متجذرةً.
استخدم النظام السوري الطائفية، ببعديها: التحريضي والانتقامي، في بناء حشده الطائفي، وكذلك فإن مجتمعًا دوليًا كاملًا عمل بجهد على تعزيز هذا الإدراك، ويبدأ ذلك من الورشات التي عنونت تحت مسمى “التعايش والسلم الأهلي”، والتي كان يُجمع فيها أفراد من طوائف عدة، ضمن نسب متفاوتة، ويضعهم في غرفة ليقول لهم: أنتم مختلفون، وأنتم طوائف، وهناك مشكلة بينكم يجب أن تحل!!!
أي مشكلة؟! هل يعتقدون حقًا أن السنّي يجلس يوميًا يشحذ سكاكينه متأهبًا ليذبح باقي الطوائف، أو أن غيره من أبناء بقية الطوائف يقوم بهذا الفعل، أم أنهم يريدون لنا أن نعتقد هذا.
تعزيز الطرح وتكراره، عمل على تحويل تلك الفكرة إلى مصطلح ينتقل، بعدوى الخطابات والتحريض، إلى المجتمع؛ ليتحول شيئًا فشيئًا إلى مشكلة معنونة، ولكنها غير مدركة، وما لمسته حتى خلال زيارتي الأخيرة إلى ريف إدلب في عطلة عيد الفطر، كان أن المجتمع ما يزال بعيدًا عما تسعى إليه خطابات الطائفية والكراهية التي تعمل عليها الكتل المؤدلجة والتنظيمات المتطرفة، وأيضًا “متثاقفون”، وقوى عسكرية ومخابراتية، من خلال آليات مختلفة، من بينها الصور القادمة من منبج، وردود الفعل عليها.
لنتناول مثالًا آخر عن آليات خلخلة المجتمع، وهو الديمقراطية؛ فلو قمنا باستطلاع للرأي بين أفراد المجتمع اليوم، وليس في بداية الثورة، لمعرفة الأفراد الذين سيُقدمون تعريفًا وفهمًا كاملًا لمفهوم الديمقراطية وأبعادها، لوجدنا أنها نسبة أقل من أي تصور مرسوم مُسبقًا، ولكن لو كانت الاستبانة هي التالي فحسب: هل سمعتم بكلمة الديمقراطية؟ فإن كل أفراد المجتمع سيجيبون بنعم، وعليه يمكننا القول أن ما صُدّر هو القشور، دون الخوض والعمل على تعزيز القيم ومعانيها وإيصال مضمونها قبل تسميتها!
إن قوًى دولية عدة، ومن خلال منظمات صديقة للشعب السوري، عمدت -بشكل مبالغ فيه- إلى ضخ مصطلح الديمقراطية بشكل مجرّد دون تعزيز قيمه، ثم يتلقفه عدد من أفراد المجتمع، أو من العاملين المبرمجين، ويبدؤون بترويجه بشكل غبي متعصب.
في المقابل، نجد في محافظة إدلب، مثلًا، قوًى متأسلمة ومتطرفة، تتبنى طلاء كل الشاخصات الطرقية في المحافظة باللون الأسود، وعددها بالآلاف، لتكتب عليها “الديمقراطية كفر”، أو “الديمقراطية دين الكفر… دين الغرب”، في محاولة منها لتقديم ذلك المصطلح كنقيض لمعتقدات مجتمع مسلم، وتتعدى ذلك بتقديم الديمقراطية ليس كمصطلح كافر وحسب، وإنما كدينٍ متكامل من خلال قولها “الديمقراطية دين”، وتعزز أفكارها بخطابات مبثوثة من أبواق ماهرة في التلاعب بالعاطفة الدينية في وضع قاتل.
إن ما حملته القوى الغربية من تلاعب وخذلان٬ هو ما سهل دور القوى المتأسلمة، وعزز طرحها؛ ليكون أكثر قدرة على الوصول والتغلغل في مجتمع، هُيئ على مدى أعوام من الدم؛ لتلقي خطاب تحريضي ديني مبني على مرتكزات مؤلمة، يعايشها المجتمع في كل تفاصيل حياته، وهذا الخطاب لم يعد مطالبًا بتقديم طرح علمي تفصيلي؛ لنقض الديمقراطية أو الحرية، أو غيرها مما نادى به الشعب السوري، ويكفي لهذا الخطاب ان يُقدم بعد غارة روسية أو غارة لقوى التحالف الدولي؛ ليكون خطابًا متقنًا في وصوله وملامسته للمجتمع.
إن هذا التناقض المشغول سيعمل على خلق صراعات حول مصطلح غير مُدرك أصلًا، ويمكن أن يُبنى على هذه الصراعات مزيدٌ من التفكك والتقسيم في البنية الاجتماعية الواحدة، ذات الجملة البنيوية المتقاربة.
هي مجرد أمثلة على عشرات القضايا والمصطلحات والمشاهد الإشكالية التي تستخدمها قوى، داخلية وخارجية عسكرية وسياسية؛ لخلخلة المجتمع السوري، وإفساح مساحات أكبر لمشاريعها وخطابها، أثرت -ولا تزال تُؤثر- عميقًا في نسيجه، وتزيد اتساع الثغرات التي تؤدي إلى عزل جماعاته وأفراده عن بعضهم بعضًا، وهو ما لا يمكن مقاومته، دون التأمل والتفكير في التفاصيل، بعيدًا عن دوافعنا الشخصية والأيديولوجية، وبعيدًا عن ردود أفعالنا الذاتية.
تعليق واحد