قضايا المجتمع

المخبرون شريان السلطة الأمنية في النظام السوري

كم تغيَرت حيوات أشخاص في سورية نحو الأسوأ، وربما انتهت، بسبب تقرير! وكم مات من البشر قهرًا في السجون بسبب تقرير مخبر! وكم اعتُقل في سورية بشر بسبب تقرير! وكم استشهد من شباب وشابات في سجون النظام بسبب تقارير المخبرين!

لا يمكن تحديد عدد المخبرين الذين عملوا، ومازالوا يعملون، لصالح النظام السوري وأجهزته الأمنية، إذ اخترق النظام كل المجموعات الاجتماعية البشرية، ودسّ فها مخبرين، فبين الأطباء طبيب مخبر، وبين مجموعة المهندسين في الشركات مهندس مخبر، وبين الطلاب طالب مخبر، وبين المحامين والحرفيين والتجار وغيرهم، وهكذا تستمر المتوالية الأمنية؛ لتصبح كل دوائر المجتمع والحكومة مراقبة من قبل السلطة الأمنية، ولنا أن نتخيَل كمية الأموال التي تُصرف على فئة، عملها هو تقديم تقارير لضباط الأمن والمخابرات عن إخوتهم السوريين وأقاربهم.

 

وتُقدّر بعض الأوساط عدد عناصر الأمن والمخابرات بأنواعها -قبل الحرب- بنحو 350 ألف عنصر، جميعهم يعملون بأجر، ويتمتعون بامتيازات وحصانة لا حدود لها، ويعمل معهم ويدعمهم نحو العدد نفسه من المخبرين غير المتفرغين، أو المتعاونين المتطوعين، أو كتبة التقارير الدوريين وغير الدوريين.

 

مناصب أمنية للأسوأ

اتفق من استُقصيت آراؤهم في هذا التحقيق على أن “المخبر”، هو أداة لتثبيت السلطة الأمنية والعسكرية، فالدكتور عزيز ديوب المقيم في دبي، قال لـ (جيرون): “إن سلطة حافظ الأسد الاستبدادية تجلت من خلال عثوره على حثالات المجتمع السوري، ووضعهم في مناصب حزبية وعسكرية وأمنية، بداية من القيادة القطرية الموقتة، والتي بدورها رشّحت أشخاصًا يفوقوها سوءًا لقيادة فروع الحزب، والتي بدورها رشحت من هم أسوأ منها لقيادات الشُعَبْ، وهكذا في المنظمات الشعبية والنقابات، وكان مطلوبًا من هؤلاء جميعًا التعاونُ مع الأجهزة الأمنية، وبالتالي تحولوا بسرعة إلى مخبرين”.

 

المدَرس السوري مخلص ونّوس الذي يعيش ويعمل في الكويت، وهو من عائلة اكتوى أفرادها بنار التقارير الأمنية، قال لـ (جيرون): “أكاد أجزم أن (المخبر أو العوايني) هو العمود الفقري للنظام العسكري الشمولي، وقد عرفنا -كسوريين- هذه الفئة ليس في سنوات الثورة الخمس الأخيرة، بل منذ نعومة أظفارنا، إذ لم يعرف جيلنا خلال خمسين عامًا الأخيرة سوى حاكم واحد برأسين”.

 

وتابع “يُخيّل لي أن مأثورات من قبيل (الحيطان لها آذان) أو (امشالحيط الحيط وقل يا رب السترة) هي اختراع سوري بامتياز، حيث يفقد الإنسان الثقة بأقرب المقربين، سواء أكان أخًا أو أبًا أو صديقًا أو جارًا أو زميل عمل”، وأضاف: “هناك قصص لا تُعدّ ولا تُحصى عن أناس كانوا ضحايا لهذه الفئة التي تتلخص بالمخبر، والتي عبّر عنها الشاعر العراقي بدر شاكر السياب بالقول: أنا ما تشاء أنا الحقير/ صباغ أحذية الغزاة/ وبائع الدم والضمير”.

 

وفي المعنى نفسه والسياق، تقول المدرّسة السورية المتقاعدة شهناز نظامي: “المخبر أداة مهمة من أدوات السلطة القمعية، ووسيلة تُفرِغ من يُمارسها من كل إنسانية أو احترام”، وتعتقد أنه في سورية “أكثرية مسحوقة ورافضة لسياسة حزب شمولي ونظام أمني وعسكري، علامته الفارقة هي سوء المؤسستين، وتوظيفهما وتسليط أدوات تعذيبهما على المواطنين، دون أدنى تفكير في حقوق المواطنة. والمخبر هو المنظار الذي تبحثان من خلاله عن أي نيّة لحراك سياسي؛ أو لتأسيس تجمع حزبي، أو لعقد لقاءات تضم مثقفين أو قوى فاعلة في وجه أنظمتهما”.

 

يتوزَع المخبرون في الأجهزة الأمنية على الرتب كافة، بدءًا من العناصر وصعودًا إلى صف الضباط وصولاً إلى الضباط، والجميع يراقب الجميع، فحتى الأجهزة الأمنية تُراقب بعضها، وتكتب التقارير عن بعضها، وكذا الحال أمنيًا في الجيش، فمن أصغر وحدة عسكرية إلى  أعلاها، هناك ضابط الأمن وشبكة المخبرين الذين يتوازعون مهمة مراقبة الجميع وكتابة التقارير، وصولاً إلى أمن القصر.

 

يعتقد ونّوس أن وجود هذه الفئة، أي المخبرين “ضرورة ضمن منظومة السلطة الأمنية، فمن خلالهم خَلَقت السلطة مجتمعًا خائفًا يتوجس الأخ من أخيه، وفي أيام التظاهرات السلمية في مدينة السلمية، كان هناك عدد من المتظاهرين يقومون بحماية الناس من هؤلاء المخبرين، الذين كانوا يُشاركون بالتظاهرات؛ ليقوموا بتصويرها لمعرفة كل من شارك وتسليم القوائم للأمن، وتدعيم تقاريرهم بالصور”.

 

فئة منبوذة

يوجد المخبرون في كل مكان، في سوق العمل، في سوق الخضرة، في الشارع والمستشفى والثكنات، وحتى في المدارس والجامعات، وتظهر ملامح التربية التجسسية في تصرفاتهم، وتقول نظامي: “على الرغم من أن بعضهم ضحايا السلطة الأمنية العسكرية، إلا أن هذه الفئة منبوذة من قبل المجتمع، فشخصياتهم تعكس تفسخًا اجتماعيًا، سببه الرئيس هو السلطة الأمنية التي تجعل من المجتمع كتلة بشرية خائفة من بعضها بعضًا”.

 

يؤكد العارفون بالموضوع الأمني وجود شريحة، تُعدُّ العمود الفقري للمخبرين، تقبض أجورًا من قبل الأجهزة الأمنية مقابل تقاريرها الدورية، كما يؤكدون ارتقاء كثير من المخبرين سلَم المناصب في السلطة، ووصول بعضهم إلى رتب كبيرة كمديرين عامين ووزراء.

في القطاع الحكومي، يوجد في كل المؤسسات الحكومية، سواء على مستوى بلدية صغيرة أو دائرة أو مؤسسة أو وزارة، مخبرون يهيمنون عليها، وتخضع كل المؤسسة لأوامرهم، خاصة عندما يتعلق الأمر بالحاجة إلى جمع معلومات عن شخص معارض، وهؤلاء بدورهم يخضعون لمخبرين سرّيين لمراقبة عملهم، وضمان تأديتهم له على أحسن وجه.

 

منذ انطلاق الثورة السورية منتصف آذار/ مارس 2011، انضم إلى (الشبَيحة) عدد كبير من المخبرين، وبعض هؤلاء ارتدوا أقنعة، واستخدمتهم حواجز النظام الأمنية والعسكرية للدلالة والإشارة إلى أشخاص شاركوا في المظاهرات، ومن مهماتهم أيضًا مرافقة عناصر الدوريات الأمنية؛ للتعرف إلى أشخاص محددين في أثناء عمليات الاعتقال ومداهمة البيوت والأحياء.

 

يمكن الاستشهاد بالأدب في هذا المقام، لتوضيح الصورة في سورية، حتى ولو بشكل ساخر، ففي إحدى مجموعاته القصصية التي تحمل عنوان “في إحدى الدول”، والتي ترجمها عبد القادر عبد اللي، كتب الكاتب التركي الساخر الشهير عزيزي نيسين، قصة عنونها باسم (المخبرون والرئيس الأهبل)، تحكي عن رئيس غير متوازن، عُرف حكمه الاستبدادي بالاستخدام الكبير للمخبرين، لدرجة أنه استورد مخبرين من خارج البلاد، ووصل الحال إلى أن تحولت أغلبية الشعب إلى مخبرين، وانشغلت القلة القليلة المتبقية خارج هذا السياق بتأليف النكت عن الرئيس المُختل، وتزايدت أعداد النكت عنه إلى حد صار مطلوبًا من قائد المخابرات إخبار الرئيس بذلك، فتحيّن اللحظة الملائمة وروى له أولى نكتة عنه، فضحك وطالبه بالمزيد، فروى له كل النكت المنتشرة عنه، وبعد أن ارتوى من الضحك قال له: إنها نكت تخص نائبي الأول والرجاء أن لا تخبروه بها، ويفعل قائد المخابرات الأمر نفسه مع نائب الرئيس، وتكون النتيجة أنه يُعلّق بأن هذه النكت قيلت عن رئيس الوزراء، وتتوالى العملية لتصل النكتة إلى موظف في دائرة حكومية، تُحكى أمامه فلا يضحك، فيتم القبض عليه بوصفه من ألّفها.

الوسوم

مقالات ذات صلة

إغلاق