بعد كل غياب عن مونتريال أعود فيفاجئني بعضُ جديد السوريين؛ الذين كانوا في يوم ليس بعيدًا، أكثر قربًا من بعضهم، وأكثر دفاعًا عن ثورة الشعب السوري.
يفاجئني انفراط عقد التجمعات الكبيرة، والحلقات الصغيرة، وحتى دوائر الصداقات التي قاومت زمن الاستبداد والهجرة والعمر عقودًا من الزمن، فإذا بها تنهار وتتشظى إلى حالات، كل حالة تحولت إلى ما يُشبه القنفذ، أو بالعامية السورية “كبابة الشوك”، الذي ما أن يشعر بالخطر يقترب منه حتى يتكور على نفسه، ويتحول الى كرة من الشوك، لا يستطيع أحد لمسه.
في آخر اجتماع لإحدى حلقات السوريين المتقاعدين في مونتريال، التي تزداد ضعفًا نتيجة تسرب أعضائها، وهربهم من الجلوس مع بعضهم، حضر بالصدفة أحد أعضائها، الذي ازدادت حالات غيابه عنها، بعد ارتفاع منسوب الاتهامات “الطائفية” بين السوريين، ومسؤولية هذا الوضع عمّا آلت إليه أمور الثورة. وما إن جلس، وردًا على سؤال صغير عن سبب غيابه، حتى بدأ بكيل الاتهامات، المحقة وغير المحقة، لأصدقاء كانوا ماركسيين ووطنيين وقوميين، ثم تحولوا للدفاع عن “داعش والنصرة”، تابع: في هذا الوضع، فضّلت البقاء في البيت وحيدًا.
وللموضوعية وتحقيق التوازن، الذي أراه ضروريًا بين المتحقلين حول الطاولة، وجهت له كلامي، بعد أن صمت، وقلت: من الجهة الأخرى -أيضًا- يا صديقي، يجب أن نلاحظ أن الأصدقاء الذين كانوا ماركسيين ووطنيين وقوميين، قد تحولوا ليكونوا مدافعين عن الأسد ونظامه، وارتدّوا إلى علويتهم ومسيحيتهم ودرزيتهم وشيعيتهم، تحت شعارات الخوف من “الظلامية الجهادية الإسلامية”. إن كلامك، يا صاحبي، يشبه الأنفاق التي حفرها الثوار تحت الآثار، أو تحت الحواجز بهدف إسقاط نظام الأسد، فدمروا ما دمروه وقتلوا من قتلوا، وبقي نظام الأسد على حاله، قويًا.
في الوقفة التي نفذها، في مونتريال، 15 امرأة ورجلًا بمناسبة الذكرى الثالثة لمجزرة الكيماوي، جاءت امرأة ترتدي قميصًا دون أكمام، وتضع صليبًا في عنقها، مُتسلحة بالقانون الكندي الذي يحميها، وتسأل عن أعلام الثورة السورية الخضراء، وما هي هذه الأعلام؟ فرد أحدهم بطيبة خاطر، رغم خبث السؤال وكيديته، إنها أعلام الثورة. فقالت: عن أي ثورة تتكلمون؟ وانتهى الكلام بالشتائم وانصراف المرأة.
شعرتُ بالإهانة نتيجة إحساسي بأن هذه المرأة استخدمت “الصليب” كوسيلة لإفهامنا أن المسيحيين السوريين ضد الثورة، أكثر من استخدام المطران لوقا الخوري له، فذلك رجل منتفع من سلطة آل الأسد، ولكن هذه المسكينة تعيش في مونتريال، وقد تكون تركت سورية قبل سنوات، نتيجة ضغط النظام عليها، فلماذا تعادي الثورة؟
نظرت حولي باحثًا، في المجموعة التي معنا، عن امرأة سورية تضع حجابًا فلم أجد. كان الطابع الإسلامي الذي ميّز المظاهرات المؤيدة للثورة في مونتريال قد تبخّر بعد ثلاث سنوات من مجزرة الكيماوي، ولم يبق إلا أقل من عشرين شخصًا “علمانيا” في هذه الوقفة، فماذا جاءت هذه “المسيحية” الآن، هل لتقول لنا، علنًا ما قاله صاحبنا في جلسة المتقاعدين، لقد عادت إلى مسيحيتها؛ لأن الآخرين “الثوار” قد أصبحوا داعشيين وجبهة نصرة؟
سيرى بعض الناس في كلامي تحريضًا طائفيًا، لهم كل الحق في ذلك لو كانوا فعلًا غير طائفيين، أما إذا كانوا يحاولون إخفاء هذه الطائفية بقناع، فأود أن أطمئنهم بأن كل الأقنعة تمزقت، وقد انكشفت الناس على بعضها، وهذا من علامات انتصار الثورة، وليس من علامات عجزها أو إخفاقها.
ذكّرني ذلك المتقاعد وهذه المرأة بحديث دار بيني وبين أحد مؤيدي النظام منذ عشرين عامًا.
في إحدى الأيام كنت في نقاش مع أحد المؤيدين، وكان مُدرّسًا للفلسفة قبل هجرته، قلت له: إن السياسات المائية الفاسدة للنظام السوري ستُدمّر الاحتياطي المائي في سورية، وتزيد من نسبة التصحّر وسرعته. قال: كيف؟ قلت له: هل تذكر عدد الآبار الارتوازية في منطقتكم (شرق حمص) قبل 20 سنة مثلًا، وكم هو عددها الآن؟ قال: كان عددها في القرية 2 أو 3، لا أذكر، الآن بفضل سيادة الرئيس وسياسته الحكيمة، كل فلاح عنده بئر ماء أو أكثر. قلت له: ولكن المياه نقصت كثيرًا، وأصبح على الفلاح أن يحفر مئات الأمتار كي يصل إلى المياه الجوفية، والتي ستتناقص كميتها كل عام إلى أن تجف قريبًا. نظر إليّ غير مصدق، وقال: قصدكَ أن المياه الجوفية ستنتهي، هل من المعقول أنك لا تعرف أن هناك أقنية مائية، تحت الأرض، تأتي من البحر الى هذه الآبار مباشرة؟
توقفت يومها عن متابعة النقاش مع “خرافة” مدرس الفلسفة في المدارس البعثية، الذي كان “تقدميًا وقوميًا بعثيًا” حتى العظم، ثم تحوّل إلى مدافع عن الأسد حتى الموت، واستغربت اقتراب طريقة التفكير عند الشيخ عبد الله المحيسني، من عقل مدرس الفلسفة، عندما كان يقول قبل أيام لأتباعه، في حلب، إن في الجنة حوريات إذا بصقت الواحدة منهن في بحر مالح تحوّل إلى ماء حلو كالسكر. وقلت لنفسي إن من يعتقد بوجود أنفاق تربط ما بين البحر والآبار السورية، يجب أن يصدق قول المحيسني أن بصقة حورية قد تحول مياه بحر مالح إلى بحر من سكر.
أخيرًا، كنت قبل أيام قد كتبت منشورًا (فيسبوكيًا) صغيرًا عن الاتهامات والاتهامات المضادة بين السوريين، عن مصير الثورة، فقلت: بدأت كرة الاتهامات عن فشل الثورة تتدحرج بين الأطراف السياسية والأفراد، كل طرف يقذف الكرة باتجاه الآخرين لتحميلهم المسؤولية وتسجيل هدف في شباكهم، وهذه نغمة معروفة منذ البداية.
إذا كانت الثورة قد فشلت، فهذه مسؤولية الجميع دون استثناء، توقفوا عن المهاترات السخيفة، وقدموا حساباتكم لمن بقي حيًا من الشعب….
الثورة لم تفشل وهي مستمرة، ودليلي أننا نتكلم بوضوح وننشر “غسيلنا الوسخ” على حبال عقولنا، لعلنا نستطيع تنظيفها ذات يوم، وهو لا بدّ آتٍ.