النخب التي تحدثت في المواطنة والديمقراطية والمجتمع المدني، لم تبن هذه الأفكار على مضامين عملية فبقيت في علب مستوردة دون إسقاط على الواقع، لأنها في لحظات النشوة تهمل تكوينات المجتمع وبناه الأساسية، حيث المواطنة الحقة تعترف بمكونات المجتمع المتدين وغير المتدين، والديمقراطية تراعي المشاركة وليس التبعية، والمجتمع المدني يحتاج إلى دولة قوية ليكون قويًا بمواجهة التغول ويكون معبرًا عن المواطنية، وليس مجرد تجمعات في مؤسسات خدمية.
قسم من المسلمين ينفر من هذه المصطلحات، ويراها مناهضة لحكم الدين بسبب دعوتها للفصل بين الدين والدولة، أو لحكم الشعب، أو للحريات الشخصية، وحرية تشكيل الأحزاب بلا قيود، وفي ذلك تقف موقفًا مناهضا لها.
وقبل أن نكثر النقد وندخل في جدالية المعنى، علينا أن نفكر بالمحاولة والمواجهة لصور التدين الخاطئ والممارسة السياسية الخطأ. فالإسلام السياسي فشل؛ لأنه ارتكب إثم العيش في الماضي ولم يواكب العصر وحاجاته، لذلك تحول إلى حركات التطرف والتشدد والتكفير، من غير أن يساهم في البناء والتعمير.
عندما نقول “إسلامي”، يعني شخص منتمٍ إلى أيديولوجيا سياسية دينية، ما يعني أنه ليس كل مسلم إسلاميًا، فالإسلامية هي حركة سياسية – دينية، تهدف إلى إقامة الدولة الدينية الإسلامية. والسوريون معظمهم “ضد الإسلامية” وضد “الإسلام السياسي” الذي لا يُشكّل بكل فصائله وتكويناته الربع بالمئة من الشارع السوري.
في الإسلام يمكن أن تقوم أحزاب عدة بتوجهات مختلفة، لأنه لم يكن هناك حزب واحد جامع لحاجات المسلمين، ولن يقوم حزب بحاجاتهم المتنوعة، إلا أن الإسلام ليس دولة بل دعوة، والدولة لا دين لها، وإنما المجتمع والناس يعتقدون بما شاؤوا، ولا يجب فرض دين على أحد ولا تمييز بين أهل الأديان، وفي حال تعدد القوميات المواطنة هي المرجع.
والمقدس الإلهي يجب أن يصان من السياسة، ودعاة الإسلام السياسي بحاجة إلى الوضوح، فيجب أن يبتعدوا عن التفكير أنهم مصدر الوحي وشراحه، وأن الله لم يهد سواهم، وأنهم حماة الدين وحدهم وأن يعلموا أن لهم شركاء في الوطن يقاسمونهم الحياة والموت فيه، حتى إن لم يكونوا على دين، وهم مسؤولون مثلهم يحاسَبون ويحاسِبون.
ومفهوم فصل الدين عن الدولة هو رؤية إسلامية؛ لأن الإسلام دين ودنيا، وبالتالي البنية الإسلامية هي من صلب المواطنة؛ لأنها تمثل أغلبية الناس، وإن لم تستوعب في العملية السياسية؛ فهذا يعني دعوة إلى تهميش الأكثرية وهذا غير منصف، إلا أن السياق في مسألة الإدارة “يجب” أن يكون ذا مرجعية علمانية.
الدولة إما أن تكون دينية أو علمانية، وكل دولة باسم دين أو أيديولوجيا هي دينية حتى لو كانت ملحدة، العلمانية تعني فصل الأيديولوجيا عن الدولة، وبذلك لا يجب ذكر دين أو انتماء أي مسؤول أو مرشح لمنصب ما، وبرامج التنافس يجب ألا تذكر أي هوية غير هوية الوطن.
وقيام أحزاب بهوية دينية ليس معناه فرض الأيديولوجيا الدينية؛ لأن المبادئ الديمقراطية ستحكم العملية، وليست الديمقراطية الشكلية التي هي تكرار المقولات دون مضامين
الحزب الديني من حيث الهوية هو الذي يرى الدين دافعًا أخلاقيًا للممارسة السياسية وليس برنامجًا يسعى لفرضه على المجتمع، وتكون مخارجه بشرية لا قدسية لها، وهو حزب كبقية الأحزاب.
كل حزب يسعى لفرض برنامجه على المجتمع كله، ويفرضه على الأمة كلها، ويقول الإسلام هو الحل أو ينادي بتطبيق الشريعة هو حزب شمولي، ولا يمكن أن يؤمن بالديمقراطية، وإن سعى لفرض برنامجه بالقوة فهو تنظيم فاشي.
حين بقي الإسلام في نظر الجميع خيالًا لا واقعًا وتصورًا من أجل بناء دولة المقدس لا دولة المواطنة، كانت النتيجة في طالبان وداعش والولي الفقيه… كلهم يستند إلى أمهات كتب الفقه التي تمثل تجربة تاريخية، مجرد التفكير في إعادتها تساوي إنتاج الماضي بكل صراعاته والاستبداد عبر تسلط الغالب، وقهر القوة.
النظام الديمقراطي لا يعني حكم الأغلبية الهوياتية، وإنما الأغلبية البرامجية التي تلتزم بالمبادئ الديمقراطية، الأغلبيات الديمقراطية لا علاقة لها بالهويات، ولا بألوان الناس ومذاهبهم، وإنما علاقتها بصراع الأفكار والأحزاب ومصالح الأطراف والحلول الوسط، والائتلافات بين القوى والتوافقات المتغيرة بتغير المعادلات في المجتمع، تركيا -على سبيل المثال- دولة علمانية يحكمها حزب إسلامي، وإذا بقيت ديمقراطية فإنه لن يحكمها إلى الأبد.
المبادئ الديمقراطية الضامـنة للاستقرار وعدم الانقلاب ليس فقط بتبادل السلطة بالانتخاب، وإنما هي مسلمات ملزمة مثل تداول الحكم بطريقة سلمية وقيام عملية انتخابية دورية على المستوى البرلماني أو الرئاسي أو كليهما، والفصل بين السلطات واستقلال القضاء، وضمان مجموع الحريات اللازمة كحرية التعبير عن الرأي وحرية الاجتماع والاتحاد وتشكيل التنظيمات، وإقرار القوانين التي تمنع تعسف الدولة وتحييد قوى الأمن وتغييرها لتكون أداة تمكين الديمقراطية عوض أن تكون أداة قمع وتدجين وإيجاد الضمانات لذلك، مع تأكيد المواطنة المتساوية ومنع التمييز بكل أشكاله. ومشاركة المرأة ومساواتها في العمل والمنصب والحقوق.
بمثل هذه التأكيدات يمكن للمسلمين أن يشاركوا بتنظيم أنفسهم، ويساهموا في بناء بلادهم كمواطنين يتساوون مع الآخر ويعترفون به، وحين نطرح “الإسلام هو الحل”، نرفع مُثـُلَ الإسلام من أجل الوطن، لا من أجل المجموعة، مهما كانت تقواها. والدين الذي يبنى على الإكراه ليس دينًا، لأن الدين طاعة وهو يقوم على الرغبة والاختيار.
“العلمانية هي الحل”، وفصل الدين عن الدولة يحمي الدين والدولة معًا، والإسلام السياسي في نظام علماني هو سياسة لا دين فيها، وتعامل كأي حزب أو تنظيم ولا قداسة لها ولا لحامليها.
هناك من يرفض الديمقراطية؛ لأنه يعدها حكم الشعب، بينما يعتقد أن الحكم لله مستندًا إلى آية في القرآن (إن الحكم إلا لله) وآية تقول (وأن احكم بينهم بما أنزل الله). إن الحكم في القرآن كله يقصد به القضاء والتشريع …فالحكم لله ولا يشاركه أحد، أما السلطة التنفيذية فهي الأمر وتركها الله للناس، وشاورهم في الأمر -وأمرهم شورى بينهم- وممارسة الديمقراطية في مجال الأمر، والبرلمانات تشرع في العفو الذي تركه الله للناس في مجال الأم، لأن الحياة لا تتوقف وحدودها في المسموح والممنوع، فلا تحل ما حرمه الله، ولا تحرم ما أحله الله.
يبقى التأكيد أن الطريق إلى الديمقراطية ليست مفروشة بالورود، وعلينا أن نقتلع الأشواك بأيدينا ونحن نشمر ونجتهد إليها.
ويخطئ من يظن أن الطريق ممهدة نحو الديمقراطية، فلابد أن نشق إليها السبيل بأنفسنا ولذلك لابد للديمقراطية من ديمقراطيين، يعلمون ما يفعلون وما هم عنها بغائبين.