باندلاع الثورة في سورية وتشكّل الأحزاب والتنسيقيَّات المختلفة، برزت المسائل الخلافيَّة بين الكرد في المنطقة من ناحية السلطات الموزّعة بين كلّ المكوّنات، التوزيع لم يكُ عادلًا في نظر العديد من المنتقدين، سواء من الناحية السياسيَّة أو من الناحية الخدميَّة، وتم التعامل على أساس جزئية (الأقوى هو من يحكم في أحوال الحروب والصراعات).
الأزمات
يقول شورش درويش، الباحث بالشؤون السياسيَّة الكردية لـ (جيرون): إنّه و”مع اندلاع الثورة السوريّة وجدت القوى السياسيّة الكردية نفسها في مواجهة الشارع الكردي الغاضب والمطالب بإسقاط النظام، كان الأمر غير مسبوق ومربك، إلى درجة أنه دفع بالحركة السياسية الكردية إلى لملمة شتاتها، والاتجاه نحو البحث عن شكلٍ أو إطار يقي الحركة الكردية مخاطر السياسات الحزبية الضيقة، في مواجهة شارع يتّسع باطراد، فكانت الفكرة ثم الشروع ببناء المجلس الوطني الكردي في تشرين الأول/ أكتوبر 2011، والذي كان في بداياته مؤتمرًا للأحزاب الكردية والمستقلين والتنسيقيات الشبابية، مع الاحتفاظ بعدد لا بأس به للتمثيل النسائي، وتواصلت الأحزاب؛ بغية قبول حزب الاتحاد الديمقراطي للانضمام للمحفل الناشئ، غير أنّ الاتحاد الديمقراطي اعترض على عدد المقاعد المخصصة له للتمثيل كحزب، وقال: إنه يحظى بجماهيريّة كبيرة، وأن لديه منظمات رديفة، ومن الإجحاف احتساب مقاعده كباقي الأحزاب”.
باشر المجلس الوطني الكردي عمله، بينما كان الاتحاد الديمقراطي يجهز لإطلاق مشروعه الخاص به، والذي عُرف -لاحقًا- بمجلس موازٍ للمجلس الوطني الكردي تحت مسمّى (مجلس غربي كردستان)، وظلَّ الجانبان يتسابقان على الاستئثار بالشارع الكردي.
مع اندلاع المواجهات المسلحة في سورية بين قوات النظام والمنشقين عنه، التفت الاتحاد الديمقراطي باكرًا إلى هذه النقطة، وبدأ التحضير لمرحلة جديدة، عنوانها الاعتماد على قوات مسلحة، تقوم بمهمة الدفاع الذاتي عن المناطق الكردية، في حين كان المجلس الآخر مصرًا على انتهاج الطريق السلمي والسياسي.
تحالف ثم خصام
أقام المجلسان تحالفًا على هَدي قرارات ما باتَ يُعرف بـ اتفاقية “هولير”، وسُمّي التحالف بـ “الهيئة الكردية العليا”، والتي حظيت بتغطية كبيرة من الشارع الكردي، الذي كان ينشد اتحاد القوى السياسية الكردية، لكن ما لبثت أن جُمَّدت وانتهت “الهيئة الكردية العليا” مع تبادل المجلسين الاتهامات، حيث اتهم “المجلس الوطني الكردي” شريكه باحتكار العمل ومخالفة الاتفاقية، ولا سيّما في شقها العسكري، إذ كان يطمح “المجلس الكردي” إدخال ما يُعرف بـ “بيشمركة روج آفا”، وهم فصيل مؤلف من متطوعين كرد سوريين ومنشقين عن الجيش السوري، لاذوا بـ “إقليم كردستان العراق”، ووضعتهم الأخيرة في معسكرات خاصة وأشرفت على تدريبهم، في حين اتهم “مجلس غربي كردستان” شريكه بالتقاعس ووضع العراقيل والإساءة للشراكة.
مع انضواء “المجلس الوطني الكردي” في ائتلاف قوى الثورة والمعارضة السوريَّة، زادت حدّة الشقاق بين المجلسين، ذلك أن الائتلاف كان يتهم الاتحاد الديمقراطي بالوقوف إلى جانب النظام، في مقابل اتهام الاتحاد الديمقراطي للمجلس الكردي والائتلاف بالتبعية لتركيا، والسير خلف إرادتها التي ترفض إقامة منطقة نفوذ لـحزب الاتحاد الديمقراطي.
ازداد حجم الشقاق بين الطرفين مع إعلان الاتحاد الديمقراطي “الإدارة الذاتية”، مُهمشًا بذلك شركاء الأمس، ومعتمدًا على جهده في إقامة مشروع، تبلور وكبر؛ ليصبح فيما بعد مشروع “فيدراليّة” في شمالي سورية.
مع تحوّل الاتحاد الديمقراطي إلى سلطة أمر واقع، بات الأمر أكثر تعقيدًا في ظل مشهد تحكمه تبعيّة المجلس الكردي لأجندات خارجية بحسب الاتحاد الديمقراطي، وفي ظل رفض الأخير مبدأ الشراكة مع أي طرف يرى في نفسه ندًا فعليًا.
آراء
يرى شلّال كدو، سكرتير حزب اليسار الديمقراطي الكردي في سورية، وعضو الائتلاف الوطني السوري عن المجلس الكردي، أنّ “الصراعات والاستقطابات البينية تعود أسبابها إلى القراءات المختلفة ومساراتها، إضافة إلى أن حزب الاتحاد الديمقراطي يتعاطى مع الشأن السوري والكردي من منظور حركة المجتمع الكردستاني الذي يختلف بسياساته وأجنداته وأولوياته عن أجندات الحركة السياسية الكردية في سورية، ما يؤدي إلى الصدام السياسي؛ وبالتالي تعميق الخلافات والاستقطابات التي تؤدي بدورها إلى ابتعاد الناس عن الحراك السياسي برمّته”.
بينما يرى الصحافي براء صبري، أنّ الخلافات “تولّدت منذ بداية الحراك السوري، وعلى خلفية أن الاتحاد الديمقراطي استطاع قراءة الحدث من مبدأ أن الحرب ستطول، والانزواء لصالح المنطقة التي هو من صميمها أفضل حل للجميع، بينما اعتمد المجلس الوطني الكردي على قراءات بسيطة للصراع السوري، كانت تُصرّ على أن النظام منتهي الصلاحية، وسيرحل خلال أقل من عام على أكثر تقدير”، ويتابع: “توسّعت الخلافات في مسعى الطرفين لكسب الشرعيَّة الخارجية والمحليَّة، وكان للداعمين الإقليميين الدور الرئيس بالتباعد، كما أنّ هذا الحراك المتضاد ولَّد إعلامًا كرديًا، زاد الشرخ وروّج لمصطلحات لا يمكن للمجتمع إلّا أن يعاني منها تباعدًا”.
وعن سبب التجاذبات بين الطرفين، أضاف: “المشكلة التي تصادف الطرفين حاليًا هو أن طرفًا أصبح أمرًا واقعًا، وكسب الكثير من الجولات على المستوى السوري والخارجي، ونتج عن ذلك غرور محلي ونوع من الاستبداد السياسي المرافق لزمن الحرب، بينما تهشّم الطرف الآخر لاعتماده على المعارضة بالمطلق التي بدورها أصبحت في أضعف زاوية -شعبيًا وسياسيًا- سورية، ويرفض هذا الطرف المراجعة وتحمّل الواقع للعودة إلى ساحة الوجود الفعلي الذي يساعده عليه استبداد الأول، ويرفض تقديم خيارات فعليَّة على حساب استمراره بالاعتماد على الخطاب الاستهتاري بالأوّل”.
“حزب الاتحاد الديمقراطي” والتجاوزات
أُعلِنَت “الإدارة الذاتية”، ومن ثم بدأت الهيئات المؤسَّسة بمزاولة عملها في “تأمين مستلزمات الحياة اليومية للمواطنين”، وسط معارضة من أنصار المجلس الوطني الكردي، وشريحة واسعة من السوريين، واتهام الاتحاد الديمقراطي بممارسة الإقصاء سياسيًا واجتماعيًا إزاء المجلس الوطني، ولم يلبث أن أعلن الاتحاد الديمقراطي مشروع “فيدرالية” في شمالي سورية، وهو الأمر الذي لاقى المعارضة ذاتها، ويقول الناشط السياسي الكردي محمد موسى لـ (جيرون): “عندما نتحدث عن الفيدرالية، نعني بالقطع أن تلك الدولة محكومة بنظام حكم –الفدرلة- كما أنّ الفيدرالية عادة مشروع متفق عليه بين جميع الأطراف في بلد واحد، ولكن في حالة الاتحاد الديمقراطي، فقد أعلنها من جانب واحد، وقبلها لم يحظَ بالاعتراف داخليًّا من المعارضة والنظام، وحتّى من خصومه السياسيين الكرد في موضوع إعلان الإدارة الذاتية، فكيف له أن يقفز على الطاولة، ويُقدّم مشروعًا ضبابيًا غير مفهوم المضمون، ولا يمتّ للقومية بصلة، وبلا خارطة ولا علَم ولا حتّى نشيد”.
يتابع موسى: “من جانب آخر يطرح المجلس الوطني الكردي مشروع الفيدرالية –غير مدوّن- طرحًا لشعار فحسب وليس كهدف، على الرغم من أنّهم أقروها في مؤتمريهم السابقين”، وعن الخصومة السياسية بين الطرفين يقول موسى: “لم تبدأ هذه الخصومة السياسية بسبب طرح مشروع الفيدرالية أو الإدارة الذاتية والإقصاء، بل كانت مشتعلة منذ بداية الثورة، حيث انقسم الشارع الكردي بين (البارزانية) و(الأوجلانيَّة)، وسُحقت (القضية) بين أقدام التصارع على السلطة الوهمية الزائلة”.
يُذكر أن الاعتقالات الأخيرة التي نفذتها “القوات الأمنية التابعة لحزب الاتحاد الديمقراطي” ضدّ بعض الشخصيّات السياسيَّة الكردية، لاقت معارضة واسعة، وبهذا الصدد يقول موسى: “ما أقدم عليه حزب الاتحاد الديمقراطي من اعتقالات وزجّ معارضي الأسد في سجونه، كانت خطوة غير موفّقة بالمطلق، حيث استفاق عليها جمهور المجلس وتعاطف معه، ولم يبق لحزب الاتحاد الديمقراطي أي حجّة يدافع بها عن نفسه، إلّا أنّ السابقة الخطِرة كانت مماثلة لرمي إبراهيم برو رئيس المجلس الوطني الكردي في معبر ربيعة، والجملة الشهيرة التي قالوها له: (سنقطّعك إربًا إن عدت مرّة أخرى)، وهذه سابقة خطِرة لم نفهم منها إلّا أنّه لم يتبقّ عند هذا الحزب الشمولي خطوطًا حمراء، وأن رؤوس معارضيه أيًّا كانوا، باتت رخيصة وستزهَق أرواحهم”.