إذا وضعنا الاستبداد إلى جانب الديمقراطية، فأيهما أقرب إلى الإسلام، أو تحقيق العدل في المجتمع؟ وهل يمكن الجمع بين الاستبداد والإسلام والعدل؟
اعتاد بعض الفقهاء المسلمين -عبر التاريخ- الإجابة بنعم، والترويج لحلم “المستبد العادل”،
واعتادوا -مقابل ذلك- على القول باستحالة الجمع بين الإسلام والديمقراطية، لأن الديمقراطية -بحسب زعمهم- تقوم على أهواء الناس ومبدأ الأغلبية، وأن الأغلبية من الناس لا تتمسك بطاعة الله، ولا ترغب في شريعته وحكمه، بل تبتغي حكم الجاهلية، وأن الديمقراطية تخالف الطريقة الشرعية في اختيار الإمام وتناقض نظام “الخلافة”.
يَفتَرِض هذا الجواب أن “الخلفاء” كانوا يُطبّقون الشريعة الإسلامية ويعدلون بين الناس، وأن طريقتهم في الوصول إلى السلطة أو الحكم كانت بحسب المقاييس الإسلامية، وأنهم غير مسؤولين عما أصاب الأمة الإسلامية من تدهور وفساد وتمزق وابتعاد عن الدين.
بيد أن التاريخ والواقع يقولان عكس ذلك، وهو ما يحتم طرح السؤال الآنف من جديد: أيهما أقرب إلى الإسلام وتحقيق العدل في المجتمع؟ الاستبداد؟ أم الديمقراطية؟
على الرغم من وضوح الجواب للوهلة الأولى، إلا أن الصعوبة التي تكتنف إجابة كثير من الفقهاء عليه، وميلهم إلى الاستبداد، تنشأ من تراكم ثقافة سياسية موروثة باسم الإسلام تمجد الاستبداد، وتحث على الخضوع له، إلى درجة أنها تناقض الإسلام باسم الإسلام. ولنضع الديمقراطية جانبًا، ونأخذ العدل مثالًا، فقد أكد القرآن الكريم على العدل والقسط واتباع الحق وحذر من الظلم وتوعد الظالمين، في عشرات، بل مئات الآيات. لكن لم يعرف المسلمون -طوال تاريخهم وفي واقعهم اليوم- العدل إلا نادرًا، خاصة من الحكام الذين دأبوا على الاستيلاء على السلطة بالقوة والقهر والغلبة، والاستئثار بالمال العام، ونهبه وتوزيعه بين الأقارب والأصحاب والمناصرين، وقتل من يأمر من الناس بالقسط، ومنع أي معارضة سياسية تطالب بالعدل والحرية. وما يستتبع ذلك من هدم لأسس العدل في المجتمع.
لم يكتف المسلمون بممارسة الظلم فيما بينهم، بل قاموا بتبرير ذلك للحكام، ومع أن آيات القرآن الكريم التي تأمر بالعدل، عامة ومطلقة وشاملة لجميع مرافق الحياة ولجميع الناس، وصريحة في التحدث عن ضرورة العدل، ولا سيما في القضاء والسياسة والحكم، كآية {إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل}، وآية {يا داود إنّا جعلناك خليفة في الأرض فاحكم بين الناس بالحق}، إلا أن بعض الفقهاء قام بإلغاء حكم القرآن اعتمادًا على بعض الأحاديث، والادعاء بحكومة (السنّة) على القرآن، وتخصيص الأحاديث لعموم آيات الكتاب. فقد استثنى كثيرٌ من الفقهاء الحُكامَ الظالمين من شمول آيات العدل، بناء على أحاديث رووها عن رسول الله (ص)، تأمر بالخضوع للأئمة الظالمين وطاعتهم، وتحرم الخروج عليهم أو مقاومتهم. كحديث حذيفة بن اليمان، الذي رواه مسلم “يكون بعدي أئمة لا يهتدون بهداي ولا يستنون بسنتي، وسيقوم فيهم رجال قلوبهم قلوب الشياطين في جثمان إنس. قال قلت: كيف أصنع يا رسول الله إن أدركت ذلك؟ قال: تسمع وتطع للأمير وإن ضرب ظهرك وأخذ مالك فاسمع وأطع”. وقام كثير من الفقهاء بالاستدلال بهذا الحديث وأحاديث أخرى مشابهة لتحريم الخروج على الظَلَمة، وتخصيص عموميات الكتاب والسنّة الموجبة للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وعدّ تلك الأحاديث أخص من تلك العموميات مطلقًا.
على الرغم من نقل مسلم وأحمد والنسائي عن أبي هريرة رواية تقول: “جاء رجل إلى رسول الله (ص) فقال: يا رسول الله أ رأيت إن جاء رجل يريد أخذ مالي؟ قال فلا تعطه مالك؟ قال: أرأيت إن قاتلني؟ قال: قاتله، قال: أ رأيت إن قتلني؟ قال: فأنت شهيد، قال: أرأيت إن قتلته؟ قال: هو في النار”. فقد قام معظم الفقهاء باستثناء السلطان من حكم الغاصب، بحجة أن أدلة حكم الغاصب عامة، وأدلة طاعة الحاكم خاصة، فهي مخصصة لذلك العموم، ولم يطبقوا حكم الغاصب في حق السلطان، وصرفوه لغير الحاكم، وأوصوا بالصبر على الظلم وطاعة الحاكم الظالم،
وهكذا نشأ التلازم بين الاستبداد و”الإسلام” ونشأ فقه الخلافة -بعد أن تحولت الخلافة إلى ملك جبري عضوض- وهو الفقه الذي يؤيد الاستبداد ويشيد قوانين الحكم، بعيدًا عن الشورى ومشاركة الأمة في الحياة السياسية، ويعطي “الخلفاء” صلاحيات دستورية واسعة جدًا، تحول دون مراقبة الأمة لهم أو محاسبتهم أو نقدهم، أو تغييرهم بصورة عسكرية أو سلمية، ويعتقد أن كل ذلك من الدين.
وقد أدى ذلك الفكر الاستبدادي إلى تخلف المسلمين وانحطاطهم، ووقوعهم تحت مخالب الديكتاتورية والطغيان، ومسلسل العنف الدموي، مما كان يؤدي -عادة- إلى التمرد والثورة واستخدام السلاح من أجل التغيير والإصلاح، والقضاء على الأنظمة المستبدة الحاكمة بالقوة؛ ليعيد الحكام الجدد دورة التاريخ المغلقة، فيمارسوا الظلم بدورهم، ويستبدوا في الحكم، ويعتدوا على خصومهم؛ حتى يدفعوهم للثورة والتمرد عليهم، وهو ما أدخل الأمة الإسلامية في سلسلة لا تنتهي من الصراعات الدموية على السلطة، وظل المسلمون يئنون تحت وطأة الأنظمة الاستبدادية الظالمة حتى تمزقت بلادهم وتناحرت شعوبهم وطوائفهم، وأكل بعضهم بعضا، وتأخروا في مجالات الحياة كافة، وفقدوا استقلالهم وحريتهم ووحدتهم.
وقد أدرك دعاة الإصلاح في العالم الإسلامي أن سرَّ تخلف المسلمين يكمن في نظام الاستبداد، فقاموا بثورة ثقافية، ودعوا إلى تغيير الأنظمة السياسية الظالمة، بحيث تقوم على الشورى أو الديمقراطية، بما تحتويه من مشاركة شعبية في الحكم، وحرية سياسية، ومساواة وعدالة، ومراقبة ومحاسبة للحكام، وتبادل للسلطة بشكل سلمي بعيدًا عن القهر والغلبة والقتل والتعذيب، وتوزيع للثروات الوطنية بشكل عادل بين المواطنين، ولكن الحكام المستبدين رفضوا تغيير نمط حكمهم، ورفعوا شعار “الخلافة” في مقابل الديمقراطية، وتشبثوا بتراث الفقه الاستبدادي الذي تراكم عبر التاريخ، وساندهم بعض الفقهاء الذين أفتوا لهم بشرعية الاستبداد، والتفرد بالحكم.
وعلى الرغم من سقوط آخر نظام “للخلافة” منذ عقود، وقيام أنظمة علمانية لا تنتمي إلى الإسلام، بل تحارب الإسلام والمسلمين أحيانًا، فإن بعض الحكام وجد في الثقافة السياسية الاستبدادية التي تبلورت في ظل “الخلافة” أفضل وسيلة للسيطرة على الشعوب المسلمة واستعبادها، ومقاومة دعاة العدل والتحرر وقتل الذين يأمرون بالقسط من الناس. ووجد الطغاة والظالمون من الفقهاء من يقف إلى جانبهم، ويؤيد الاستبداد في الحكم، ويبرر الاستيلاء عليه بالقوة، أو ممارسة الظلم ضد الناس، ومحاربة الدعوة إلى الديمقراطية بحجة تناقضها مع الإسلام، واتهامها بالكفر والشرك والخروج عن الدين.
احتج الرافضون للديمقراطية في العالم الإسلامي من الحكام والفقهاء، بأن الإسلام نظام شامل متكامل، يمتلك نظامًا سياسيًا فريدًا خاصًا به، هو نظام الخلافة الذي طبق عبر التاريخ، وهو ليس بحاجة للاقتباس من الشرق أو الغرب أي قانون جديد، وراحوا يدْعُون إلى العمل من أجل إعادة نظام “الخلافة” إلى الحياة من جديد.
في حين يعرف الجميع أن الديمقراطية ليست كتابًا مُنزلًا، ولا صورة واحدة، وإنما هي مجموعة مبادئ وآليات للحكم، تقوم على أساس إرادة الأمة وانتخاب الحاكم، والفصل بين السلطات، والتعددية السياسية، وأنها (الديمقراطية) قد تلتقي مع الإسلام أو المسيحية أو اليهودية، وقد تتناقض مع الأديان جميعها، ويمكن لكل مجتمع أن يبني أنموذجه الخاص به، دون أن يضطر إلى قبول كل ما يوجد في التجارب الأخرى؛ وبالتالي، فإن المسلمين يمكنهم صوغ تجربتهم السياسية على ضوء الإسلام، دون أن يضطروا للتخلي عن أي مبدأ من مبادئهم.
ويعرف الجميع أن لا نقاش حول كمال الإسلام وتماميته، فقد قال الله تعالى في كتابه الكريم {اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا}، ولكنه دين وضع القيم والمبادئ والأخلاق والقوانين العامة، وترك للمسلمين تنظيم علاقاتهم الداخلية السياسية على أساس القسط والعدل والحق والشورى، ولم يأمر بالظلم والاستبداد، وأن ما عُرف -تاريخيًا- بنظام الخلافة، لم يكن قائمًا على الإسلام تمامًا، وإنما على اجتهادات خطأ أحيانًا، وكان في كثير من الأوقات مضادًا للخلافة الحقيقية التي أمر الله بها المسلمين، ولا يجب علينا تقليد عمل أو اجتهادات السابقين بحذافيرها، فقد كانت خاضعة لتدخلات الحكام المستبدين ومتأثرة بأجوائهم، ومن هنا فإن المجال السياسي اليوم مفتوح للاجتهاد والتطور، ولم يرد فيه نص من القرآن والسنة، سوى المبادئ والقيم والأخلاق التي تنظم العلاقات السياسية، وبالتالي فلا ما نع من الأخذ من تجارب الأمم الأخرى العقلية، التي لا تتعارض مع الإسلام.
فمثلًا إذا كان المسلمون -عبر التاريخ- قد اعتادوا في ظل نظام “الخلافة” على استيلاء الحكام على السلطة بالقوة أو الوراثة، فإنهم قد يحرمون هذا الطريق، ويحصرون الوصول إلى السلطة عن طريق الانتخاب من قبل الأمة، وبيعة الحاكم طواعية، وهو ما تقول به الديمقراطية أو نظرية الشورى التي يوصي بها القرآن الكريم، وطبقت في عهد الخلفاء الراشدين. وإذا كان المسلمون قد اعتادوا على بقاء الحاكم بلا نهاية محددة في الحكم حتى آخر يوم من حياته، فإن عقد البيعة أو الانتخاب في ظل الديمقراطية، قد يضم شرطا بتولي الحاكم لفترة محددة يتنازل بعدها طواعية لحاكم آخر. وإذا كان الحاكم حسب التجارب التاريخية، يجمع بين يديه مختلف السلطات التشريعية والقضائية والتنفيذية، فإن عقد البيعة في ظل النظام الديموقراطي، يمكن أن يتضمن توزيع السلطة وتحديدها بحدود معينة والفصل بين السلطات.
وإذا كانت التقاليد العربية والإسلامية في ظل “الخلافة” كانت تسمح بتعيين الحاكم لمجلس أهل الحل والعقد، أو تهميش دورهم إلى أضيق دائرة بحيث يكونوا تابعين أو مستشارين فقط، فإن الفكر السياسي الديموقراطي الحديث ينص على ضرورة انتخاب مجلس الشورى من الأمة وتمتعه بدور الهيمنة والتوجيه. وإذا كان الحاكم عبر التاريخ، يرفض المحاسبة والمحاكمة، فلا مانع من تنظيم المحاسبة الشعبية عبر مجالس للشورى وإلزام الحاكم بالخضوع لرأي الأمة المتجسد في مجلس الشورى. وإذا كان الحكام عبر التاريخ يتمسكون بالسلطة بكل وسيلة مهما عملوا من ظلم، فلا مانع من تغييرهم عبر الطرق السلمية وصناديق الاقتراع.. وهكذا وهكذا..
كل هذه المبادئ والآليات الديمقراطية لا تتناقض مع الإسلام، بل تقوم على أساسه وتتضمن روح العدل والمساواة، وهي جزء من الاتفاق المسموح به بين الحكام والمحكومين في عقود البيعة التي يعقدونها بينهم حسب الدستور. ولم يقل أحد من المسلمين بوجوب استلهام الفكر المادي المعادي للدين، أو جعل السلطة كاملة للشعب في مقابل الله تعالى، بحيث تسمح برفض الشريعة الإسلامية أو تغيير الثابت المتواتر من الدين، إذ أن المسلمين غير ملزمين باستنساخ التجربة الديمقراطية الغربية مائة بالمائة، وإنما الأخذ منها ما يتوافق مع الإسلام، وترك ما يخالفه، وأن الأخذ بمبدأ “حكم الشعب” الوارد في الفكر الديموقراطي، لا يعني بالضرورة السير على خطى الغرب في الفصل بين الدين والحياة، والتمسك بالعلمانية الكافرة -كما يروج مناهضي الديمقراطية من الإسلاميين- فإن حكم الشعب في الإسلام لا يحتم المواجهة مع الدين، بقدر ما يعني المواجهة مع ديكتاتورية الحكام المستبدين.