ازدحام موت وقتل، استهلاك متوحش لحرب فاقدة الشّرعية تبتلع حقوق البشر، انتهاكات بالجّملة لأرض باتت مستباحة من قبل مئات التّنظيمات والمليشيات التي أسست لنفسها دويلات صغيرة أو كبيرة، فائض من كل شيء، أسلحة، ضحايا، مشوهون، أمهات ثكلوا، أحلام مهترئة، فقر مدقع، تهجير مميت، هذا ليس إعلانا.
إنه واقع فعلي يعيشه السّوريون على طرقات الانهيار الذي أصاب بلدهم مع تغير المعطيات وانشطارها بين الجّهاد الإسلامي الذي أرعب العالم وخصوصا الدّولة الإسلامية “داعش” التي احتلت الجزء الأكبر من الأضواء الإعلامية وشكلت مفصلا أساسيا في أي بحث يخص سوريا، وبين النّظام الذي يسرف في التّدمير ومقايضات التّدمير يبيع منطقة ليكسب أخرى، كأنه داخل في لعبة حرب مجانية لانهاية لها، فالدم السّوري لا يحتسب، ومن يموتون في المعارك مجرد أرقام، إنهم الـ ’’ 99,999 %’’ من النّاخبين الذين كانت تصرح بأصواتهم صناديق الاقتراع السّوري، وتحولوا لناحبين يقفون على طريق الموت السّوري، حيث الكل يعيشون خصوصيتهم في طلب النّجاة، ’’يصلي المؤمن، يشتم الكافر، يبكي الضعيف، يرتجف الخائف’’، ويحاولون الاحتماء من أيادي موت تخيط بدقة مجازر ممنهجة، حصار ممنهج، وضع اقتصادي متدهور، مخيمات نزوح بأوضاع مزرية، تجار حروب وأزمات، يبيعون أمل الحصول على مكان آمن عبر رحلات تيه تقودها معادلة قاسية ترسم حدودها ’’البقاء ليس آمناً، والخروج ليس أهلاً للثقة’’ ولا أحد يعرف صوابية القرار بعد أن صار لذلك ’’القناص والبرميل العشوائي، والقارب، والشّاحنة’’ حصّة في تقرير المصير لشعب بلد ينزف.
نيران متعمدة أحرقت ’’الأخضر واليابس’’، ونقلت السّوريين من السّجن الكبير والخضوع لاستبداد السّلطة إلى خضوع لاستبداد متعدد الأطراف، وما يجري التّركيز عليه يقتصر على مساحات الأرض التي يغطيها رصاص القتل، وتُجيّر نحو طرف معين، ويغفل عما يتم إنتاجه من تشوهات في بنية الفرد والمجتمع السّوري، فالإغفال المتعمد لما تعيشه الشّعوب هو صنعة ناجحة ’’لأولياء الأمور’’، وصبغة مفروضة على العاجزين ومن اتكئوا على ’’إذا ابتليتم بالمعاصي فاستتروا’’، والسّوريون استتروا طويلا، معاصيهم وأمراضهم ليست وليدة الحاضر، ويصعب حصرها، لكنها لا تنفك تزداد عمقاً، وتسحبهم نحو قاع الفساد الذي أسس لازدراء القيم الاجتماعية والإنسانية، ليتحول الازدراء إلى استخفاف واستهانة بحياة الآخرين، يجمد الحاضر على حدود الثأر والانتقام يجتمعان معا، وينسجان الكره والحقد المتبادل لينتجا مجازر مغطاة جيداً برداء المظلومية والدّفاع عن الوجود، فتقود المليشيات المتنوعة جحافلها لتصنع قسوة الأحداث من دماء ضحايا لن يصنعوا سلماً، فإعادة السلم متوقفة على تحالف القتلة.
خبرة تكيّف واسعة وتناقضات بأبعاد قاسية، أرست قواعدها سنوات القمع وما رافقها من جرعات الخوف الكبيرة التي حولت رفض القهر والاستعباد ’’للتّصفيق في المسيرات وهتاف بالروح والدم’’، وباتت الآن تتجاوز حدود المنطق، فرغم انكسار هوامش الخوف من السّلطة يتمسكون ببقاياه ويخافون الآخر، كأنها سمة الشّعوب التي قدر عليها أن تمشي ’’الحيط الحيط وتقول يارب السّترة’’، يضيع حاضرهم وحقهم بالحياة ويخشون الأسوأ، يرغبون بالديمقراطية والحرية ويتعاملون معهما كحلم مستحيل، يريدون إسقاط النّظام ولا يجدون رئيس توافقي لفترة مؤقتة ’’كبدل من ضائع’’، يعرفون الطّريق جيدا وأن الحل بأيديهم، وينتظرون حلول جزئية لمغطس الدم السّوري يفصلها مديرو الأزمات والتّسويات لملفاتهم المتشابكة المتعلقة بدول أخرى والمعلقة على أسوار وطن منكوب، يفقد تاريخه وماهيته ومستقبله داخل مرجل الموت الرّخيص.
الأصدق فيما يقال أن سوريا الوطن لن تعود كما كانت، فالانتقال من خوف إلى خوف، من ’’موت سريري’’ إلى ’’موت معلن’’ يتعدى الصّدمة وضياع الاتجاهات، إنه زلّة تاريخ استيقظ بالحاضر ليعمل على تفريغ الماضي والتّراث والمفاهيم من كل معنى أو حضور أمام حالة تسويق للتوجهات الآنية أو المرحلية أو الاستراتيجية التي تسعى بشكل أو بآخر لتفكيك وطن وبناء آخر فالأوطان لا تموت، وسوريا حيث للتاريخ صورة الحضارات القديمة المنحوتة من صخرها، وحيث أبدع إنسانها معجزات ماتزال ترفع البشرية حتى اليوم، وشعبها الذي عركته التجارب والعشرات من أقسى معارك التاريخ يستطيع انتشالها من ركام الحاضر ليصنع مستقبله ومستقبل وطنه الأفضل.