قدّمت -في الآونة الأخيرة- أسرة الصحافي الراحل مصطفى أمين، أكثر من 5 آلاف كتاب، كهديّة إلى مكتبة الجامعة الأميركية بالقاهرة، التي تُعنى بالكتب والمجموعات النادرة -بحسب ما ورد بالخبر في الصحافة المصرية- مضيفة أن الجامعة قد ذكرت في بيان لها أن هذه المجموعة الكبيرة، قُدّمت من قبل زوجة أمين إيزيس طنطا، حيث تضمّنت إضافة إلى الكتب التي قام بتأليفها أمين، العديد من السير الذاتية، وبعض الروايات والمسرحيات، وأيضًا وثائق لها علاقة بالسياسة الدولية، ووثائق تاريخية لها علاقة بالمجتمع، ورسائل شخصيّة قام بتحريرها أو استقبالها، كما تضم سيناريوهات لمسلسلات تلفزيونية، ومسوّدات لكتب مختلفة، وبعض الصور والمخطوطات، إضافة إلى وصيّته، وصور ومذكرات كتبها في أثناء فترة سجنه.
يُذكر أن مصطفى أمين قد سُجن في عهد الرئيس عبد الناصر عام 1965، بتهمة التخابر والتجسس لصالح الولايات المتحدة الأميركية، وخرج من السجن بعفو من الرئيس السادات عام 1974.
وُلد مصطفى أمين في شباط/ فبراير 1914، وتوفي في نيسان/ أبريل 1997، وهو شقيق توأم للصحافي علي أمين، والدهما كان محاميًا. أمّا والدتهما فخالها سعد زغلول. وقد عُدّ الشقيقان: مصطفى وعلي -مع أسماء عديدة أخرى- من مؤسّسي الصحافة المصرية، منها الراحل محمد حسنين هيكل الذي، وبحسب مصادر عدة، كان على علاقة طيّبة مع الشقيقين في البدايات، ثم اختلفوا بسبب تباين الرأي والموقف السياسي، وقد كتب هيكل أن مصطفى أمين كتب مقالات تشيد بالملك فاروق، ثم كتب مقالات تدينه، وكذلك كتب مقالات تشيد بعبد الناصر، ثم بعد خروجه من السجن كتب مقالات يدين فيها عبد الناصر، وقد اتّهمه بأنه يميل بقلمه بحسب المصالح، بينما آخرون يرون في أمين تجربة صحافية كانت تنتقد الخطأ، مستندين إلى ما كان يكتبه أحيانًا، ومنه قوله: “قيمة الوطن أنك تجد فيه العدالة أكثر من أي مكان أخر، قيمة الوطن أنك تجد فيه الحب أكثر من أي مكان أخر، وعندما يخلو الوطن من الحماية والعدالة والحب، يصبح المواطن غريبا”، وقوله عن العمل بالصحافة: “الصحافة الحرة تقول للحاكم ما يريده الشعب، وليس أن تقول للشعب ما يريده الحاكم”.
إن تبرّع أسرة مصطفى أمين بكتبه لمكتبة الجامعة الأميركية، تجعلنا نستذكر جزءًا -ولو يسيرًا- من مسيرة صحافيّة عاشتها مصر، وأصبح أشخاصها مراجع وأعلام في الصحافة. وعلى الرغم من صعوبة تلمّس الأحوال اليومية التي كانت تحيط بتلك الفترة التاريخية، ومدى تأثر الصحافة والصحافيين بالأفكار الأيدولوجية أو الليبرالية، وماهية العلاقة بين أعلام الصحافة والحكام، وخاصّة إبان فترة عبد الناصر، ومن ثم السادات، كونها فترة مهمة، اتسمت بالانتقال من الشعارات القومية -التي كانت تشعل العواطف الشعبية من خلال خطابات عبد الناصر- إلى الانفتاح على الغرب وإسرائيل ومفردات السلام بخطابات السادات، وهي الفترة التي أمر فيها بإطلاق سراح مصطفى أمين من السجن، وتعيينه رئيس تحرير صحيفة الأخبار، وتعيين شقيقه علي أمين رئيسًا لتحرير جريدة الأهرام، عوضًا عن هيكل، الذي عاش فترة عزّه في فترة عبد الناصر، وهذا ما يدل على أن الصحافة هي ابنة السياسة وتعيش برعايتها، فأمين -الذي سجنه عبد الناصر لعلاقته بالمخابرات الأميركية- يخرج ليصبح رئيس تحرير الأخبار -في عهد السادات- ومحمد حسنين هيكل -الذي كان مقربًا من عبد الناصر- يترك الأهرام -بقرار من السادات- ليحل محله علي أمين -شقيق مصطفى- الذي بدوره كان خارج مصر، ويُتّهم بعلاقته مع المخابرات البريطانية في فترة حكم عبد الناصر.
على الرغم من ذلك تبقى التجارب الصحافية بحالتها الإبداعيّة وبصياغتها، وتناولها للحدث السياسي أو الاجتماعي أو العسكري، أو حتى للهموم والهواجس الإنسانية البسيطة وعلاقتها بالسلطة السياسية وعرضها بطريقة ساخرة أو لاذعة -كما فعل أمين- أو التسويق لفكرة أو نهج سياسي أو فكري -كما فعل هيكل- كل ذلك إن اتفقنا أو اختلفنا معه، يبقى تجربة غنيّة تعطينا فكرة ليس عن الصحافة كمهنة وأسلوب وخيارات، ضمن سياق تطورها، بل عن المجتمعات وما أفرزت من تناقضات، وكيفية تقبلها للفكرة والطريقة السائدة في الطرح أو الترويج أو التوثيق أو النقد، والذي بدوره يقود إلى فهم خصائص مجتمع -في مرحلة تاريخية- وكذلك سيكولوجية أفراده وهيكليّة مؤسساته؛ وهو –أيضًا- نوع من التأريخ، ومن هنا تأتي أهميّة تجارب صحافيّة لأسماء حجزت مكانًا مهمًا لها في مسيرة الصحافة، كمصطفى أمين وتجربته الغنيّة والمتنوعة.
ولأننا -الآن- نعيش فترة تحولات مصيرية في سورية -وربما في المنطقة العربية برمّتها- لا بد من أن تفتح تلك الهديّة المكتبية التي اختارت أسرة أمين تقديمها للجامعة الأميركية بالقاهرة، والتي درس فيها في عشرينات القرن الماضي، ونفتح معها نافذةً لأسئلة مشرعة منها السؤال الأهم: ماذا سيكون رأي مصطفى أمين في ثورات الربيع العربي لو كان حيًا؟ وخاصّة أن هذا الربيع شرّع الأبواب لصحافة وأقلام جديدة، إضافة إلى الأقلام التي كانت ممنوعة من الكتابة، أو لا تجد فرصتها في ما كان متاحًا من مؤسسات؟ قد يكون هذا السؤال مرتبط بالفضول، لكن الفضول بحد ذاته هو ما يدفع الصحافي للولوج في تلك الممرات المبهمة، علّها تعطي حقائق من نوع آخر، وخاصة إن كانت تتعلق بثقافة المجتمع وتجربته.