مازال مفهوم الديموقراطية في بلدان العالم الثالث غير واضح لبعض أفراد المجتمع، ومازال الحس والوعي بالديمقراطية غائبًا، كحق من حقوق الشعوب، عليها التمسك به والدفاع عنه؛ ضمانًا لحقوقها ولتطورها؛ وحتى لوجودها.
الديمقراطية ليست سلعة تُعرض في الأسواق وعلى الناس التهافت للحصول عليها، كما بيّنها رأس النظام بشار الأسد، عندما قال في بداية الثورة السورية: إن الشعب السوري غير جاهز للديمقراطية؛ وبناء عليه، حجب نظامه تلك السلعة عنه. وهي ليست مكرمة من نظام اعتاد تقديم “المكرمات” بحرمان الشعب منها فترة من الزمن، ثم يبسط اليد قليلًا لتقديم تلك الهبة أو المنحة؛ وبالتالي، اعتاد الشعب المحروم استقبال تلك الهبات، كمكرمات من سلطة أغدقت عطاءً.
الديمقراطية أرقى ثقافات المجتمع، ومن هنا على الشعب العمل بكل الوسائل المتاحة للوصول إلى هذه الثقافة، ومنع السلطات من عدّها منة ومكرمة تقدمها للشعوب، بل على العكس، فالشعوب أساس السلطات والحكم والقانون، ولا تكتمل مبادئ حقوق الإنسان إلا بالديمقراطية كأساس لها.
جاءت ثورات الربيع العربي في بلداننا التي تخلو من الديمقراطية؛ لتعيد إلى الواجهة تلك العلاقة بين المؤسسة العسكرية، وبقية المجتمع، فمرحلة الانقلابات التي سادت منتصف القرن الماضي، حيث يصحو الناس فيجدون العسكر قد سيطروا على السلطة، وأعلنوا أن الدولة والدستور أصبحا أمانة في أيديهم، وأطلقوا على ما قاموا به ثورة، وأقنعوا الشعب أنه هو من قام بالثورة، ثم أعلنوا حالة طوارئ؛ ليراقبوا من خلالها الشعب، ويطبقوا على أنفاسه؛ جعلت مجتمعاتنا تعيش قلقة، مرتبكة، ومسلوبة الإرادة، واستطاعت السلطات التي أفرزها العسكر أن تخلط المشهد ما بين العسكر والشعب، وهكذا غيّبت مكونات المجتمع عن التفاعل فيما بينها، ولم تعطِ خلطة جديدة ينتج عنها فكر يتناغم مع مفردات التطور الإنساني، وبقي العسكر يريدون تطويع المجتمع بأدوات العقود القديمة، ومع غياب الديموقراطية عن المجتمع، يتجلى الفارق -بشكل واضح- بين الجيش والشعب، وكأن هذا الجيش ليس من الشعب، وهؤلاء الجنود الذين جعلتهم الصدفة في هذه اللحظات موجودين في هذا المكان بالذات، لن ينتقلوا هم بعد أشهر أو ربما أيام؛ ليكونوا في المقلب الآخر مع الشعب، إذا ما انتهت خدمتهم، طبعًا إذا ما استثنينا المتطوعين.
التجربة الديمقراطية عبارة عن وعي تراكمي في الذهن، والشعوب المسلوبة حريتها وديمقراطيتها، بل تفكيرها مشبع بأيديولوجيا معينة، زرعتها أنظمتها خلال عشرات السنين، ليست جاهزة لحدث بعينه؛ لتدافع عن الديمقراطية من خلاله، فهي أو جزء ليس بقليل منها، لا تدرك تماما أن الديمقراطية حق لا يقوى أحد على حرمانها منه، وهنا تعطينا الحوادث الجارية على الساحة فرصة للمقارنة، على سبيل المثال بين الجندي السوري والجندي التركي في التعامل مع الشعب لحظة المواجهة، الجندي التركي خبر الديمقراطية ومارسها، حتى ولو لفترة ليست طويلة، قبل أن يصبح في السلك العسكري، ورآها كذلك في المجتمع المحيط، بينما الجندي السوري، وبالتحديد خلال الثورة السورية التي اندلعت في آذار/ مارس عام 2011، هو نتاج عدة أجيال مرت محرومة من الديمقراطية، حتى أصبح أشبه بآلة، يُدخل عليها برنامج من الأوامر، يحتاج إلى كبسة زر واحدة؛ ليعمل البرنامج تبعًا للنظام المصمم عليه، فعندما اصطدم الجندي السوري بشعب يهتف للحرية، لم يعطِ لعقله فرصة التفكير، إنما استجاب لزر التشغيل لديه الذي ضغطه سيده، بينما خرج الجندي التركي لا يدري أي مهمة تنتظره، وعندما رأى الشعب وقف مذهولًا محترمًا خياره، ولم يجعل من نفسه طرفًا عدوًا له، وهو ابن الشعب ، لذلك لم نشهد ضحايا في الساحات، إلا من الأشخاص المحدودين الذين قاموا بالانقلاب، وظلوا مصرين على نجاحه، في المقابل الشعب الذي خرج مسرعًا، بشيبه وشبابه، لم يخشَ الاندفاع أمام الدبابة؛ لأنه واثق من أن قائدها ليس عدوه، ولن يتعامل معه إلا بحسه الوطني.
هبّ الناس إلى الشوارع حاملين العلم التركي، ولم تُرفع صور الرئيس رجب طيب أردوغان، وهذا يعبّر عن الوعي الوطني لديهم، ويعبّر عن الفهم الحقيقي للديمقراطية، فدفاعهم كان عن الوطن والحياة الديمقراطية التي وصلوا إليها، ولن يتخلوا عنها أمام صوت العسكر وسياطهم، وهم بذلك يدافعون عن خيارهم الذي عبروا عنه قبل أشهر بصناديق الاقتراع، وهذا ما عملت به الأحزاب الأخرى، المعارضة لحزب العدالة والتنمية الحاكم، عندما أعلنت رفضها للانقلاب وهيمنة العسكر على السلطة بقوة السلاح، ولم يُعر أيّ منهم أهمية لبيان الانقلابيين وما جاء فيه.
لكن في المقابل، فإن المجتمع السوري الموجود في تركيا، كان من الملاحظ أن العديد منه قد “جيّر” فشل الانقلاب لصالح الرئيس أردوغان، وليس لصالح تركيا وتجربتها الديمقراطية، ومنهم من ذهب أبعد من ذلك، باتخاذ صوره رمزًا على صفحات التواصل الاجتماعي خاصتهم، مأسورين بالشخص الرمز، لا بالوطن الرمز، ولا شك في أن هؤلاء هم أنفسهم من مجّد وهلل لبعض قادة الفصائل، وجعل منهم رموزًا؛ لعدم وعيهم بأن الوطن أكبر من أي رمز، وفي المجتمع المصري أثناء الانقلاب الذي قاده الجيش قد بدا العكس، إذ ظهر أن جزءًا كبيرًا من الشعب كان يبحث عن رمز، فسوّق قائد الجيش نفسه بسهولة، كقائد على طريقة انقلابات القرن الماضي، وقرر أن الشعب قام بثورة جديدة غير الثورة على حسني مبارك، بينما المجتمع السوري الموجود بمصر حينها، عاش حالة قلق وخوف من تغيّر وجه مصر من مدني إلى عسكري؛ نتيجة تجربته المؤلمة مع عسكر بلده، لكن عسكر مصر كانت التهمة عندهم جاهزة بأن السوريين مؤيدون للإخوان المسلمين، ومنعوهم حتى من دخول مصر، السوريون بدورهم أخذوا ينظرون إلى مصر، إما مرسي أو العسكر، وهذا نتيجة أن التجربة الديموقراطية في مصر لم تتبلور وتأخذ طريقها بعد الثورة، وما زالت التجربة السورية في مراحل جنينية؛ بسبب العسكر الذي أطاع الديكتاتور وفتك بالمجتمع بدل أن يحميه.
وهكذا، ربما تراءى للسوريين، خاصة الموجودين على الأراضي التركية، أن الضامن لوجودهم، وهم بأعداد تقارب ثلاثة ملايين شخص، هو وجود أردوغان وحزبه في الحكم، وهذا بعينه افتقار إلى مفهوم الديمقراطية، وما جرى للسوريين في مختلف بلاد اللجوء، خاصة “الشقيقة” منها، يجعل السوري دائم التوجس على مستقبله، إن تغير نظام الحكم فيها، فدولنا وقوانيننا رهينة شخصيات، وليس دساتير ومواثيق.
أما في الجانب الثاني من الشرائح السورية، وهنا نقصد الموالين للنظام، الذين أطلقوا النيران، ابتهاجًا بالانقلاب على أردوغان، وهو في نظرهم العدو اللدود للأسد الذي اتخذوه رمزًا، يدافعون عنه وعن بقائه حاكمًا، حتى وإن ماتوا جميعًا في سبيله، فإيمانهم به يفوق الإيمان بالوطن والقوانين، بل هو حامي الوطن وسيده، ولم يميّزوا أن أحزابًا معارضة كانت في الساحات تشارك في الميادين لعودة الديموقراطية للمجتمع، ومنع الجيش من السطو عليها.
هي تجربة ربما تحتاج من الشعوب إلى كثير من التضحيات، ودفع الضريبة الكبيرة للوصول إليها، لكنها عندما تصبح قيد المنال، لا يمكن للمجتمعات، إن كانت حية، أن تتخلى عنها بسهولة، فالديمقراطية هي ضمان بقاء الشعوب وأمانها وتطورها.