عندما دشن بشار الأسد في الشهور الأولى من عام 2011 مواجهة التظاهرات السلمية المطالبة بالإصلاح وكان أهمها إطلاق الحريات العامة ورفع حالة الطوارئ، بإطلاق النار واعتقال المتظاهرين اليافعين واختطاف ذويهم، وإطلاق ظاهرة المجرمين الأوغاد المدعوين بالشبيحة في دوما وريفها، كان بفعلته هذه يشعل الحرب الأهلية في سوريا. فالسبيل الوحيد للقضاء على الثورة هو إشعال نار الحرب. فالنهج الاستئثاري الديكتاتوري وعبادة الفرد واعتماد المذهبية في قيادة الجيش والأجهزة الأمنية المخيفة كان قد وصل إلى الإفلاس. فالحرب هي المخرج الناجح من المأزق الذي وجد النظام الأسدي نفسه فيه، سيما أن حالة عامة من النهوض الثوري السوري كانت تشي بسقوطه الوشيك.
فأن تتحول الثورة السورية إلى حرب داخلية بل أن تتحول سوريا بأكملها إلى ساحة دسمة للتدخلات الخارجية أي إلى ما يشبه حربًا عالية، تتقاسم فيها الأدوار والحصص القوى الإقليمية والعالمية كان سيؤدي بهذه الطريقة أو تلك إلى شرذمة الثورة. ولعل الأسد كان قد قرأ في مكان ما قولًا مأثورًا لأحد كبار مفكري الثورة الفرنسية “روبسبيار”: “إن الحرب معادية للثورة بطبيعتها”. لأن الحرب تقتل الفقراء من فلاحين وعمال وكَسَبة ومثقفين، وتعمل على تفكيك صفوفهم وزرع الخلافات الحادة في صفوفهم ذلك لمصلحة النظام الكلياني المستبد. فكيف تكون الحال في ظل نظام مخابراتي أسدي أمسك برقاب السوريين طيلة 40 سنة بلا هوادة، مغيبًا حتى الاضمحلال القوى الحية للشعب السوري ومؤسسات المجتمع المدني وحق التعبير وإبداء الرأي والطباعة والنشر. فطيلة 40 سنة نهش النظام لأسدي أرواح السوريين وقدرتهم على الاعتراض والممانعة، مذوبًا الروح القومية وأحزابها والقوى الديموقراطية بتشكيلاتها واتحاداتها ورابطاتها ونقاباتها المستقلة عن قبضة الحزب الواحد ذي الصورة العلمانية الظاهرة المزعومة والمرئية التي في حقيقتها تخفي سياسة مذهبية فئوية تؤسس عاجلًا أو آجلًا إلى اندلاع الحرب.
هكذا مزقت الحرب السورية الطلائع الأولى للثورة وشعاراتها التقدمية والإصلاحية لتولّد ما لا يحصى من الفصائل المتشرذمة وطروحاتها الاسلاموية بل المذهبية على قاعدة الثأر من النظام العلوي الفئوي المتسلط. ولم يتأخر النظام الأسدي وقد شعر بدنوّ الأجل عن استدعاء الدعم العاجل لأن نظامًا فئويًا آخر يحمل مشروعًا مذهبيًا يستهدف وبالقوة ليس المنطقة العربية وحدها فحسب بل العالم الإسلامي برمته.
وما دامت الحرب تفي بالغرض وتحقق أهداف النظام وحلفائه، وما دامت التربة قد بلغت خصوبتها حد التشبع فإن اختلاف وابتداع (داعش) يشكل وقودًا جديدًا ليس لاستمرار الحرب السورية فحسب بل ليطاول الصراع بلدانًا أخرى مجاورة كالعراق ولبنان بل أبعد كاليمن والبحرين والكويت لتحاول النفاذ إلى الداخل السعودي. بل أكثر من ذلك بما لا يقاس عندما بدأ الإرهاب يدق أبواب أوروبا ليصل إلى أميركا نفسها.
فإذا كان الغرب يريد الإطاحة بالأسد، فبإمكان الأسد أن يقض مضاجعه ويهدد بلدانه في عقر داره. وأن يختلط ويتشابك في سوريا من هو ثوري أو منتفض من منظور سياسي إسلامي بمن هو داعية للعودة في الألف الثالث قرونًا سحيقة بعيدة إلى الوراء بقوة الإرهاب، فهذا بالضبط ما سعى إليه الأسد وحلفاؤه.
فلم يعد في هذه الحال كافيًا وصم المعارضة السورية بالإرهاب، بل أصبح ضروريًا وملحًا أن يتم استقدام القوى العالمية للتدخل العسكري في سوريا بذريعة مكافحة الإرهاب. فلم تعد والحال هذه مقولة أن الحرب الدائرة في سوريا تقي أميركا وحلفاءها شرور الإرهاب وأنها في مأمن.
لا تشكل الحرب السورية في تعقيداتها مساحة مثلى لوأد الثورة والقضاء على أي طموحات عادلة للشعب السوري في الإصلاح وإجراء تغييرات أساسية في بنية النظام ودستور البلاد فحسب بل أصبحت بابًا مشرعًا أمام تدفق القوى العالمية والإقليمية الوازنة لتقاسم النفوذ وسط تجاذب مذهل بينها وتوزيع معقد للأدوار والحصص.
فالنظام الإيراني يطرح نفسه كقوة رئيسية كناظم لأوضاع المنطقة، وهو يعتبر بقاء الأسد ونظامه ضمانة له وخطًا لوجستيًا لا يمكن التنازل عنه للوصول عبر العراق وقد أصبح محمية خاضعة له، إلى لبنان. وتركيا تنظر بعين القلق للعلاقات الوطيدة بين الأميركيين والأكراد. وقد أدى التدخل العسكري الروسي بعد فشل الدعم العسكري الإيراني وحلفائه في سحق القوى المناهضة لبقاء الأسد، إلى دخول عامل جديد مقرر لمستقبل سوريا وتسود حالة من الإرباك الشديد العلاقات الروسية الإيرانية تجد تعبيراتها المتأرجحة بين الحاجة الماسة لآلة الحرب الروسية من جهة وطروحات المتشددين في أوساط القادة الإيرانيين بضرورة التريث في الاستعانة بها من جهة أخرى.
ويعتقد الإسرائيليون بدورهم بأن استمرار الحرب السورية يعود بفوائد أساسية عليهم، ففي الوقت الذي يتابعون عن كثب صعود النفوذ الإيراني فهم لا يطيقون أن تتحقق طموحات طهران بحجز مقعد لها في مفاوضات السلم، فتل أبيب لم تخف حربًا بمواجهة ميليشيا حزب الله والتي أفضت إلى القرار الدولي 1701 لتنعم بهدوء واستقرار على حدودها الشمالية كي تجد نفسها ذات يوم تفاوض معلمه الإيراني.
يجب أن تستمر الحرب السورية في ظل ما تبقى من ولاية الرئيس أوباما كي تظل الفرصة سانحة أمام بوتين للتلاعب إلى ما نهاية بالانكفاء الأميركي في سوريا وكذلك في أوكرانيا التي تخضع يوميًا لسياسة الابتزاز الروسي ابتداء بالغاز وانتهاء بإملاءاتها على حكومة كييف حول سياستها الخارجية. فالحرب السورية أيضًا هي التي جعلت طهران ترتمي بأحضان الكرملين سواء كان ذلك بتزويدها بالمستشارين والخبراء والتجهيزات النووية أو بالسلاح الروسي المتطور والمنظومات الصاروخية، بل كذلك في مجلس الأمن.
في ظل سعير الحرب السورية وما أفرزته من تمزق في صفوف المعارضة وفصائلها المقاتلة واستفحال شرور (داعش)، تلوح في الأفق في حلب حيث تستمر المعارك في ظل هدنة قصيرة تنفرد موسكو بتحديد مدتها، مساع جدية لتوحيد صفوف المعارضة، بعد التحول الواعد في صفوف “النصرة” (فتح الشام) وإنجازاتها الميدانية في جنيف 3 المرتقب، ستعاود المفاوضات انعقادها. وسوف نرى هناك مدى استعداد طرفي النزاع للوصول إلى تسوية قد يكتب لها بوقف الحرب.
تشكك طهران الحليف المطلق للأسد بنوايا بوتين حيال الوضع السوري. وتعتقد رموز أساسية في النظام الإيراني أن موسكو تستخدم تدخلها العسكري في سوريا لأغراض أخرى ترتبط باستراتيجية روسيا في علاقاتها مع أميركا والغرب، وان موسكو قد تضمر في دهاليز الكرملين تصورات مغايرة لتصلب النظام الإيراني بتمسكه ببقاء الأسد. ولم تأت عرضًا الملاحظات التي أبدتها بعض تلك الرموز حول تغلب الطابع الاستعراضي في طلعات الطيران الحربي الروسي على حلب على ما هو فعال ماحق وجدي. وكأن روسيا غير ميالة للحسم العسكري الذي يصر عليه الأسد علاوة على طهران. ذلك أن إيران لا يغرب عن بالها أن لروسيا مصالح اقتصادية مع الدول العربية المعتدلة وعلى رأسها السعودية وسائر دول الخليج، فهي بالتالي فلن تذهب بعلاقتها هذه لحد التدهور الكلي.
فإذا كانت الحرب السورية قد شكلت مدخلًا لروسيا لتحل محل سياسة أوباما “الناعمة” حيث أمكنها ذلك، فإن حربًا سورية غير محسومة تعود على موسكو بفوائد استراتيجية وسياسية قد كلفت روسيا جهودًا مضنية لتحقيقها.
قد يكون من باب التشاؤم القول ان نهاية الحرب السورية ما زالت بعيدة المنال.