مقالات الرأي

البعث وتحطيم أركان الدولة الوطنية

منذ اليوم الأول للثورة السورية، وانقشاع الضباب بعد شتاء سورية الطويل، بدأ يتكشف حجم التصدعات العميقة التي تركها حكم البعث وآل الأسد على ملامح الهوية الوطنية السورية، هذه الهوية التي رسم ملامحها وشيّد بناها رجالات الحركة الوطنية في فترة الانتداب الفرنسي، وأشرقت في أبهى صورها بعد الاستقلال بدولة، كانت أنموذجًا للتعددية السياسية والنهوض الاقتصادي في الشرق الأوسط، حيث كان الهاجس الوطني السوري، هو الناظم الأساسي لمسار العملية السياسية، وليس الأصل العرقي والديني، فبعض من رؤساء سورية لم يكن من أصول عربية، كما لم يكن دين فارس الخوري المسيحي لينتقص من مكانته، كأحد أهم الرموز الوطنية في سورية.

يكفي أن نعرف بأن ألمانيا الغربية كانت الدولة الوحيدة التي تتفوق بشكل طفيف على سورية بمعدلات النمو الاقتصادي في خمسينيات القرن الماضي، وفق رسالة دكتوراه لرئيس الوزراء الماليزي السابق، مهاتير محمد، عن النمر الاقتصادي السوري، في حين كان النظام السياسي والتعددي والحريات يشبه -إلى حد كبير- النظام السياسي الفرنسي، لنعرف حجم الدمار الذي ألحقه حكم البعث وآل الأسد بسورية، واللذان أسّسا لحقبة جديدة، شوهت بشكل ممنهج الهوية الوطنية السورية.

هذا التشويه للهوية الوطنية كان قائمًا على ركيزتين أساسيتين: الأولى معلَنَة، تقوم أساسًا على فرض الهوية العربية بمفهومها الخطأ، والتي “تتبجح” بإلغاء أي مكون آخر غير المكون العربي، وركيزة غير مُعلنة، قائمة على مبدأ الطائفية السياسية في صناعة القرار الوطني، وفي سبيل ترسيخ هذين المبدأين، تم بناء المؤسسات الأمنية، والعسكرية، والحزبية على أسس طائفية وعرقية لتحقيق هذه الأهداف.

مع انطلاق الثورة وجلاء الغمامة عن خمسين عامًا من التشويه المتعمد لواقع الحياة في سورية، بدأت تتضح عمق التصدعات التي حفرت عميقًا في الجسد الوطني السوري على كل المستويات، ومع تحطم القبضة الأمنية للنظام في الشمال السوري، بدأت تطفو على السطح آثار تمزق الهوية الوطنية من خلال مظاهر التمايز العرقي، كتعبير عن سنوات الإلغاء التي مارسها النظام في سحق الهوية الثقافية لهذه المكونات الأساسية للشعب السوري.
أولى هذه التصدعات كان الموقف الكردي، الذي رسم لنفسه منذ بداية الثورة مسارًا مستقلًا عن مجريات الأحداث في سورية، من خلال النأي بنفسه عما عدّه صراعًا على السلطة بين الأغلبية العربية السنية والأقلية العلوية، وتعامل مع الثورة على أنها فرصة قد لا تتكرر؛ لتحصيل مكاسب قومية، ولقد اتّخذ الأكراد بالفعل خطوات عملية في هذا الاتجاه، تمثلت بتطبيق مبدأ الإدارة الذاتية للمناطق الكردية، وكذلك إعلان الفيدرالية من طرف واحد، دون الاهتمام برأي بقية السوريين، وفي الحقيقة لم تكن المسألة الكردية إلا البداية.

أما الشرخ الآخر والأكثر دموية في المشهد السوري، فهو الانقسام الطائفي الذي أصبح أمرًا واقعًا، فعلى الرغم من كل محاولات الثوار طمأنة الأقليات الطائفية بأن الثورة ذات طابع وطني وليس طائفيًا، لكن النظام، وبفضل خبرته السابقة، استطاع حرف مسار الثورة، من خلال ممارسات طائفية دموية بهدف إحداث رد فعل طائفي لدى الثوار، كما كان للاختراقات الأمنية دور كبير أيضًا في الدفع بهذا الاتجاه.

منذ اليوم الأول لحكمه، أخذ النظام الطائفة العلوية “رهينة” عبر زجها في مؤسستي الأمن والجيش، وتحميلها وزر كل ممارساته الديكتاتورية تجاه باقي مكونات الشعب السوري، ثم عاد وزاد من توريطها منذ بداية الثورة وبصورة أكثر دموية، ولم يكتف بذلك، بل زج بمليشيات طائفية من لبنان، والعراق، وإيران في سابقةٍ خطرةٍ جدًا، ضاربًا عرض الحائط ليس باستقرار سورية فحسب، بل مقحمًا الشرق الأوسط كله في أتون حرب طائفية لا تُبقي ولا تذر.

على الجانب الآخر كان من الطبيعي أن ينتج رد فعل سلبي من الطائفة السنّية على هذه الممارسات، كونها الطائفة التي تشكل الغالبية في المجتمع السوري، وقد تعرضت طوال فترة حكم البعث وآل الأسد لأبشع أنواع الإقصاء والتهميش، وفي سبيل تحقيق أهدافه جند النظام كل طاقاته الأمنية والاستخباراتية لاختراق وتجنيد الجماعة المتطرفة الجهادية، وبات معروفًا مدى تورط أجهزة الأمن السورية مع التنظيمات الجهادية إبان الأحداث الدموية في العراق بعد الإطاحة بالرئيس العراقي الأسبق صدام حسين.

أطلق النظام بداية الثورة سراح الكثير من المعتقلين المتهمين بالانتماء للجماعات الجهادية، وهو يعرف تمامًا أنهم سيتمردون، وكما كان مخططًا أثمرت خططه فانحرف المسار، من ثورة مدنية ديمقراطية تنادي بالحرية والكرامة إلى حرب طاحنة، وكان لهذه الجماعات في ذلك، ما وضع الأقليات في موقفٍ صعبٍ، إما الخضوع للنظام أو الاستسلام لهذه الجماعات.

أمام هذا المشهد المأسوي الذي تعيشه سورية، أصبح لزامًا على السوريين أن يُدركوا بأنه ليس هناك من مخرج لتفادي انهيار الدولة سوى العودة إلى مفهوم الوطنية الصرفة، ولفظ كل أشكال الإقصاء، فأصحاب المشاريع الإقصائية، القومية منها والطائفية، مازال في جعبتهم ما يقطعوا به جسد سورية المتهالك.

الوسوم

مقالات ذات صلة

إغلاق