نشرت صحيفة (جيرون) الجديدة مقالًا في 12 آب/ أغسطس 2016، لمدير قسمها الثقافي، غسان جباعي، بعنوان (جذور الإرهاب المقدس)، جاء فيه:
“منذ الجريمة الأولى لهابيل بحق أخيه، انطلق العنف والقتل في ظل الصراع على الخيرات المادية وحيازة الملكية الخاصة والسيادة. ثم جاءت الديانات السماوية (اللاهوت) و(العقائد المقدسة)؛ لتصبّ الزيت على النار، وتؤجج هذا العنف، وتعطيه الحق والشرعية. فجميع الديانات الوثنية والتوحيدية: اليهودية والمسيحية كما الإسلامية، دعت إلى العنف وقتل الكفار والمشركين وتحديد الفرقة الناجية… إن تاريخ الديانات، هو تاريخ من الإرهاب النفسي والبيولوجي والفكري…”.
وانتهى كما يلي:
“… ومن هنا بات من الضروري أن نُعطي (ما لقيصر لقيصر وما لله لله)، وأن نُفكّر في حماية الدين من السياسة، وحماية السياسة من الدين. ولا يتم ذلك إلا بفصل الدين عن الدولة، وإخراجه من سوق التداول الرخيص، والتدخل السافر في الشأن العام، وعودته -بكل احترام وتقدير- إلى مكانه الطبيعي الذي وجد من أجله؛ أي: الكنيس والكنيسة والمسجد والمعبد، وغيرها من دور الله”.
إنها وجهة نظر يأخذ بها تيار يساري عريض في الشارع السوري خصوصًا، والعربي عمومًا، يُطلقون على أنفسهم صفة (العلمانيون العرب) أحيانًا، و(العقلانيون العرب) أحيانًا أخرى. وأنا أختلف معهم، وأطمح أن تُنشر وجهة نظري في الصحيفة، انسجامًا مع ما قاله رئيس تحريرها في افتتاحية العدد ذاته:
“سنعمل لتكون (جيرون) وسيلة إعلامية مهنيّة عميقة ومباشرة، جادّة متوازنة وثورية في آن، تنفتح على كل الأفكار التحررية، تحترم قارئها وتُشاركه، لا تحابي أحدًا ولا تحتكرها سلطة سياسية أو مالية، ولا تُغمض عينيها عن أخطاء النُخب، وفي الوقت نفسه لا تخشى تعدّد الآراء وتنوعها…).
ربما كانت ظاهرة الدين من أعقد القضايا التي تواجه الباحثين حتى الآن، فالدين حقيقة اعتمد على القيادة الروحية للإنسان؛ لكي يطهره من الداخل، بإكسابه منظومة خلقية منحازة للخير ضد الشر، وللمظلومين ضد الظالمين، في زمن لم يكن عقل الإنسان قادرًا على تفسير الظلم الكبير الذي وقع عليه من أخيه الإنسان، لكن تقدّم العلم استدعى العقل؛ ليحل محل الوحي، هذا يفسر لنا لماذا كان محمدًا آخر الأنبياء.
تجّلت مسيرة العقل بشكل خاص في أوروبا والتي تبلورت فيها سلطات علمانية، فصلت الدين عن الدولة، لكنها انتهت -كما هو معروف- لتجيير منجزات العقل لصالح الأقوياء والأغنياء في كل مكان، نلمس هذا بوضوح داخل نظام العولمة الجديد الذي تسود فيه حضارة عالمية استهلاكية، قائمة على بعد أحادي، لا محل فيها للقيم والأخلاق، بل للربح الفردي على حساب القيم الروحية؛ ما استدعى البعد الروحي للدين وما يوفره من ارتياح وطمأنينة للناس العاديين.
ليس العقل دائمًا على حق، ولصالح التطور الاجتماعي يا صديقي غسان، بل على العكس، فقد لعب دورًا معاكسًا في كثير من الأحيان، والتاريخ يعرف دور الانتهازيين الذين يمكن أن يُطلق عليهم (مساحي الجوخ) الذين استعملوا عقولهم من أجل تبرير مصالح الحكام.
أذكر يا صديقي لك هذه الواقعة التي عشتها في طفولتي داخل قريتي.
شاع في القرية -آنذاك- مصطلح شعبي (مْشفَّطْ)، يستعمل لوصف الشخص الخالي من أي وجدان أو ضمير، ولا يتورع عن أي سلوك مناف للأخلاق والقيم، إذا كان في ذلك مصلحة له.
المأساة أن هذا الصنف من الناس كان يُفكّر تفكيرًا عقلانيًا محسوبًا للوصول إلى أهدافه، ولم يكن يتجاوز الواحد بالمئة، في حين كانت عامة الناس في القرية لا تجيد استعمال عقلها، وتؤمن بكل ما هو غيبي وخرافي وأسطوري، ولكنهم يحملون ضمائر حية تفيض حبًا بالآخرين وبالصالح العام للقرية.
لم تتغير الصورة كثيرًا في كل مجتمعاتنا العربية، يا صديقي غسان، وإذا كنّا نريد تطويرها؛ فعلينا أن نعتمد إصلاحًا دينيًّا، يكون فيه لرجال الدين المتنورين دور أساسٌ؛ لأنهم المدخل إلى هذه الجماهير.
حقيقة يمكن تصنيف المتميزين من أبناء الجنس البشري، منذ القدم وحتى الآن، ضمن تيارين عريضين: تيار مثالي، اعتمد على لغة العاطفة أو الضمير أو القلب؛ للعمل من أجل قضية الإنسان، وتيار مادي، اعتمد على لغة العقل فانطلق من الواقع وليس من الرغبات.
تبلور التياران في مجتمعاتنا الإسلامية بما يعرف حاليًا باسم الإسلاميين والعلمانيين، غني عن القول إن التيارين وُضعا بمجابهة بعضهما بعضًا؛ لتسود معارك كانت وما زالت في الشارع الإسلامي بين ما يُعرف باسم الدهريين الملحدين، الذين يشاغبون على مجتمع الربوبية، وبين المؤمنين الطاهرين؛ ما أنساهم قضيتهم الأساسية وهي العمل من أجل الإنسان.
ما من شك في أن العلمانية نجحت في أوروبا وطوّرت تلك المجتمعات، وفصلت الدين عن الدولة، وساعدها على ذلك طبيعة الدين المسيحي المنتشر فيها، لكن يجب أن يكون لنا في الشرق طريقنا الخاص لتطوير وتحديث مجتمعاتنا المختلفة عن الغرب.
يختلف الدين الإسلامي عن الدين المسيحي بكونه، كما يقول عنه فقهاؤه، هو دين ودنيا، ربما كان أول من أشار إلى هذه الحقيقة في الغرب هو عميد الليبرالية، جون ستيوارت ميل، في كتابه عن الحرية، حيث رأى أن آداب المسيحية قد اجتمعت فيها كل صفات رد الفعل، وهي في معظمها عبارة عن احتجاج على الوثنية، فهي تطلب للناس كمالًا سلبيًا أكثر منه إيجابيًا، ولا يمكن أن نجد في آداب المسيحية قولًا مأثورًا يوازي القول التالي في الآداب الإسلامية (كل وال يستكفي عاملًا عملًا وفي ولايته، من هو أقوم به وأكفا منه، فقد خان عهد الله وخليفته).
الدين الإسلامي يحض معتنقه صراحة على التدخل في الشؤون الدنيوية لصالح العامة، وليس لصالح القلة من الناس، وهذا يعني أن أي محاولة لحض المسلم على فهم دينه، كأنه دين عبادات ودين روحي على شاكلة القاعدة المتداولة بين العلمانيين -الدين لله والوطن للجميع- وهي محاولة لسحب التجربة العلمانية الغربية على واقعنا سحبًا ميكانيكيًا.
سبق الإسلام، في الجانب الدنيوي، مفكرو الغرب في فهمه للعقد الاجتماعي بين الناس، ووثيقة المدينة بين المشركين والمسلمين واليهود تكاد تكون أول عقد اجتماعي ينطلق من مكونات المجتمع ويراعي تواجدها على الأرض. الإسلام أيضًا سبق أوروبا في دعوته إلى الليبرالية –ولا تذر وازرة وزر أخرى- لا إكراه في الدين.
تَعثَّر الإصلاح الديني عند المسلمين منذ نهاية عصر المأمون العباسي، وسيطر التيار السلفي في تلك الدول على الدين الإسلامي، وتحالف فقهاؤه مع الاستبداد، وصاغوا الشعور العام للمسلمين على هواهم من خلال الدولة والجامع، وخلقوا عددًا من المؤسسات والجمعيات التي تتعيش على موائدهم، واستتب لهم الأمر ألف عام.
كمنت أول محاولة جادة لرد الاعتبار إلى الدين الإسلامي في ما عُرف باسم رواد النهضة بداية القرن المنصرم، وقد وجّهوا سهامهم لمشايخ الدين الذين زوّروا الإسلام، وتعاونوا مع المستبدين.
لقد عمل رواد النهضة الأولى -بجد وتفان- من أجل تطوير وتحديث مجتمعاتهم، وكان همهم التقاطعات فيما بينهم التي تخدم قضية الحرية، وليس التفتيش عن الخلافات حول المجتمعات المقبلة، هل هي علمانية أم إسلامية.
لم يحدثنا التاريخ عن معارك جانبية بين شقي النهضة العربية الأولى، بين العلمانيين أمثال فارس الشدياق وفرح انطون وشبلي شميل وبطرس البستاني وعبد الرحمن الشهبندر، وبين الإسلاميين أمثال محمد عبده وعلي عبد الرازق وعبد الرحمن الكواكبي وجمال الدين الأفغاني ورفاعة الطهطاوي، فلماذا لا نقتدي بهم ونحاول أن نكون امتدادًا لهم ولجهدهم من أجل نهضة بلداننا العربية؟
كان من بين أولئك الرواد المفكر الإسلامي الحلبي عبد الرحمن الكواكبي، والذي دفع حياته ثمنًا لجرأته في تناول المستبدين، وما يزال كتابه “طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد”، من أهمم الكتب عن الاستبداد الشرقي، وفيه يقول “ما أليق بالأسير في الأرض أن يتحول عنها إلى حيث يملك حريته، فإن الكلب الطليق خير حياة من الأسد المربوط “، وهو الذي قضى حياته وهو يفكر في تأثير الاستبداد على الدين، على العلم، على المجد، على المال، على الترقي، على التربية وعلى العمران. ومن هم أعوان الاستبداد؟ وكيف يكون التخلص من الاستبداد؟ وبماذا ينبغي استبدال الاستبداد؟
تتجلى المعركة بأبعادها الكبرى في الثورة السورية، فهذه الثورة لأسباب عديدة -لسنا بصددها هنا- هي ثورة أبناء الطائفة السنية التي تتمسك بالإسلام وتعاليمه التاريخية، أكثر من كل الطوائف الأخرى، وهو الذي يمدّها بالطاقة الروحية اللازمة لمقاومة طغيان النظام الديكتاتوري وبراميله المتفجرة ومحاولته تركيعها وتجويعها.
وإذا كنّا نريد أن نخدم ثورتنا وشعبنا يا صديقي، فما علينا سوى العمل إلى جانب الإسلاميين المتنورين، لتبصير تلك الجماهير المتدينة بحقيقة دينها، كونه هو دين السلام وعنوانه –السلام عليكم- والسلام والإسلام يلتقيان في توفير الطمأنينة، ونبي الإسلام وحامل رسالته، حامل راية السلام، وهو يحدث عن نفسه فيقول: “إنما أنا رحمة مهداة”، ويحدث القرآن عن رسالته فيقول: {وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين}، وتحية المسلمين التي تؤلف القلوب، وتربط الإنسان بأخيه الإنسان هي السلام، وبذلك نسحب البساط من تحت أرجل الإسلاميين المنافقين الذين يستغلون أحوال عامة المسلمين الحالية، ويدغدغون مشاعر البسطاء من أهلنا باسم الجهاد في سبيل الله.
الخلاصة يا صديقي، نحن لا نحتاج -في بلداننا الإسلامية- إلى فصل الدين عن الدولة، كما تقترح في نهاية مقالتك، بل إلى فصل الدولة عن الدين، وإلى ترك الدين يتحرك ضمن فضائه الخاص الذي يحض على القيم النبيلة والأخلاق الحميدة ومساعدة الملهوف ونصرة المظلوم، ففي شرقنا الإسلامي نحتاج إلى الطاقة الروحية لدى المتدينين الإسلاميين، والطاقة المادية لدى العلمانيين. إلى تنافس الجهتين تنافسًا شريفًا على الأرض؛ ليعمل كل منهما استنادًا إلى منهجه؛ من أجل قضية الإنسان، ربما يساعدنا ذلك على تجاوز استبدادنا وتخلفنا، ومن ثم الانطلاق مع بقية المجتمعات الحضارية الحالية بالاعتماد على جناحين في التحليق.