على امتداد الطريق الصغير من القدم إلى داريا، حيث بدت عرائش العنب تحجب الرؤية عن فرع المخابرات الجوية في مطار المزة العسكري المتاخم لداريا، صاحبني وأنا أمشي في طريق ترابي، مطلع قصيدة يتردد صداها في أذني:
العيش في ليل داريا إذا بـــردا
والراح نمزجها بالماء من بردى
الطريق إلى داريا في غربي العاصمة دمشق ليست بالطويلة، قرابة ثلاثين دقيقة بين حاجز القدم وقلب المدينة، لكنها لم تكن كأي نصف ساعة، حيث يطول المسير، فقد اعتلى قناصو نظام الأسد أسطح الأبنية العالية المجاورة لداريا، وكنت حديث عهد بداريا.
بدا ممر (بلاس) الضيق الذي عبرته كمن يعبر ممرًا تاريخيًا ينزلق مرة نزولًا وأخرى صعودًا، ممر بين عهدين، تشعر وكأنك تعبر من عهد إلى آخر، من القمع والاضطهاد الذي يجسده جلاوزة الأسد في العاصمة، إلى فناء الحرية والجمال الطاغي على داريا، ومن بين دوالي العنب كنت ألمح مبنى المخابرات الجوية وأسمع أنين المعتقلين الذين هتفوا لسورية حرة.
استقبلني صديقي صلاح في داره المتواضعة في الحي الجنوبي القريب من الفرن، والتي ينبعث منها عبق تاريخ يمتزج بياسمين دمشق، لم يبق لموعد المظاهرة طويلًا حسبما قال صلاح، وما إن خرجنا للشارع حتى استقبلنا جمهرة من أهالي داريا يهتفون للحرية وهم يحملون الورود الدارانية الجميلة، وفي الطرف المقابل على مسافة كيلومتر واحد يقف حشد من العسكر المدججين بالسلاح.
لم يُبال المتظاهرون بالعسكر، وضحك صديقي صلاح، وقال لم نخرج ضد هؤلاء التافهين الذين يصوبون بنادقهم إلى صدور أهلهم، نحن خرجنا ضد مافيا كي لا تستخدم هؤلاء التافهين في القتل مرة أخرى.
ونحن نمشي مع المتظاهرين، وعند زاوية أحد الشوارع، وصلنا إلى بناء مزخرف تعلوه قبة ومئذنة مكتوب على بابها “مقام السيدة سكينة”.
بُني المقام في العام 2003 بالاتفاق بين الإيرانيين ونظام الأسد، حسبما أخبرني صلاح، ولم يكن معروفًا قبل هذا التاريخ، ويُعتبر دخيلًا على داريا، ويقول أجدادنا في رواية يعرفها عموم أهل داريا، إنه يعود لقبر امرأة تسكن في المنطقة، التي كانت نائيةً عن وسط المدينة، بينما يذهب آخرون من أهلنا إلى أنه “قبر كلب” لرجلٍ يدعى “أبو صادق”، ووفق أيمن، المختص بالتاريخ فإن السيدة سكينة “ماتت في دمشق، ودُفنت في مقبرة باب الصغير.
حين وصلنا أمام جامع الخولاني، قال صلاح “إنه من أقدم المساجد في داريا ولا تزال عائلة الخولاني اليمنية الأصل تحمل اسم هذا الرجل الجليل الذي هاجر من اليمن وسكن داريا، وعندنا أبو سليمان الداراني الشهير، وبلال وغيرهم هؤلاء من هوية داريا ويكفينا مقاماتهم، ولا نريد مقامات مزورة تشوه مدينتنا الجميلة، وما يشغلنا الانتقال إلى بلد لكل السوريين، نتداول فيه السلطة مثل كل البلاد المتحضرة التي يسودها العدل والمساواة، وتصبح المقامات على اختلافها موروثًا وطنيًا”.
ما كادت تمر ثلاثة أعوام حتى أحال الأسد داريا إلى كومة من الحجر، فقد قصفها بآلاف البراميل المتفجرة وبمئات الصواريخ البالستية، وظهر الأسد غير مرة مع الميليشيات الإيرانية وخلفه مقام السيدة سكينة الذي دمرته آلته العسكرية.
وما إن بدت ملامح إفراغ داريا من أهلها بأطفالها ونسائها ومقاتليها، حتى راحت الميليشيات التابعة لإيران من سوريين ولبنانيين وعراقيين يتسابقون على استخدام وسم “السيدة سكينة”، وقال موالون لحزب الله اللبناني “لن تسبى سكينة مرتين”، واختزل آخرون دمار داريا وإجلاء أهلها وقتل المدافعين عن المدينة الثائرة بقولهم “وهكذا عاد مقام السيدة سكينة”.
لا زال البحتري يؤرقني وأنا أتخيل الأهالي تُودع المدينة المدمرة، وهم يرددون:
العيش في ليل داريا إذا بـــردا
والراح نمزجها بالماء من بردى