مقالات الرأي

مُسدس الديمقراطية ودمقرطة مفهومها السوري

للتقديم، ننطلق في مقاربتنا من أطروحة تقوم على المُلاحظة، ثم نشتق منها ملاحظة أكثر شمولية. تتميز المفاهيم الحديثة بأنها مفاهيم حيّة، أي أنها تتشكل وتنمو وتتطور عبر التاريخ، سيرورتها أشبه بإنشاء بناءٍ وفق تصور مسبق ومُخطط معين، تبلور في الذهن كأفضل شكلٍ يوائم بين المأمول والممكن، أي بين ما نتوق إليه، وما نستطيع تحقيقه ذاتيًا وموضوعيًا.

لنأخذ على سبيل المثال سيرورة تشكّل مفهوم الديمقراطية عبر التاريخ منذ الامبراطورية الرومانية حتى اليوم، حيث يمكن ملاحظة أنها سيرورة تشكّل وتطور مستمرين على الصعيدين: النظري والعملي، وتقوم المفاهيم المركبة -جميعها- على أعمدة استنادية، تُشكّل الشرط اللازم لحياة المفهوم في العقل، بمعنى أن للمفاهيم روافع تكوِّن المادة النظرية الأولية للبناء العقلي، الذي يشكل -بدوره- الشرط اللازم لوقعنة هذه المفاهيم.

هنا نُميّز بين عمليتين أو مستويين من الجهد الفكري: الأول، تشكّل وتطور المفهوم النظري في العقل، وهو بحد ذاته سيرورة بناء وتكوين؛ والثاني، عملية وقعنة المفهوم، وجعله ملموسًا في حياتنا، ونجاح هذه الوقعنة في تحقيق أهدافها القيمية، يتناسب طردًا مع التقدم على المستوى الأول (أي مع مدى نضج المفهوم نظريًا في العقل).

المستويان كلاهما يتطلبان جهدًا معرفيًا وفكريًا، وكلاهما فعل تشكيل وخلق وتكوين؛ الأول فنٌ نظري فكري، والثاني فنٌ عملي فكري سياسي؛ من هذا المنطلق نبني ملاحظة أخرى، أكثر شمولية وأكثر بديهية: العمليتان السابقتان كلاهما جهدٌ إنساني، أولًا وأخيرًا، والمفاهيم كافة نتاج العقل البشري وانعكاس بنيته الفكرية والتاريخية (أو التاريخانية). وهذا الحكم الأخير يصبح أكثر صحة إذا اقترن دائمًا بموضوعةٍ لا تحتاج لبرهان، مفادها أن بعض المفاهيم الحقيقية لا يمكن للعقل إدراكها؛ وبالتالي، فإن الحقيقة أعم من العقلانية، ولكن -بالضرورة- تحتويها ضمن وحدة نسبية.

نضع بعد هذا التقديم ثلاثة أسئلة، نحاول الإجابة عنها بإيجاز شديد: كيف يمكن للسوريين أن يهتدوا إلى مفهوم الديمقراطية المعاصر، ضمن حالة الحرب وفوضى الفكر والسياسية؟ كيف يكون شكل الديمقراطية السورية الذي يوائم الواقع والمأمول؟ وما روافع الديمقراطية السورية وركائزها الاستنادية الضرورية لعملية بنائها النظري والعملي؟

في الحقيقة إن دمقرطة مفهوم الديمقراطية نفسه شرط أساسي لفهمه والتشبع به، بمعنى لكي نطلق حوارًا منتجًا حول الديمقراطية السورية، يجب أن يكون هذا الحوار ديمقراطيًا من حيث أنه يتعامل مع الآخر كذات لها كرامة، يعترف بحق الآخر في الوجود، ويبني معه على المشتركات.

تلك هي السيرورة الديمقراطية التي تبني الثقافة الديمقراطية، بالتوازي مع ممارستها، وبذلك يغدو السؤال الذي يهتم بأسبقية الثقافة الديمقراطية على الديمقراطية (أو العكس) سؤالًا لا معنى له، فالديمقراطية والثقافة الديمقراطية تتطوران معًا في وحدة جدلية، ولا يوجد حُكم واقع صحيح، يفيد بأن شعبًا ما غير مؤهل للديمقراطية؛ لأن هذا الحُكم يحمل سبل تعطيل السيرورة المنتجة للتطور التاريخي الطبيعي كافة، ويُمهّد الطريق للتسلط والاستبداد، ولإعادة إنتاجهما باستمرار، وإذا كانت الديمقراطية عملية بناء، وإنشاء وتشكيل بالمعنى الموضوعي فإن عليها الأخذ أيضًا بمقدرة البنَّاء (القدرات الذاتية للسوريين).

ولكي تكون الديمقراطية واقعًا ملموسًا، وليست شعارًا فحسب، عليها الموائمة بين المأمول والواقع، والتحلي بالصبر العقلاني لوقعنة المأمول وفق حوار مستمر، يصقل ثقافتنا الديمقراطية؛ الأمر الذي يتطلب دراسة عميقة لفهم الواقع، وعيًا مقاربًا لهذا الواقع، جهدًا مختلفًا وفريدًا، يقوم على نحتٍ وتشكيلٍ جديد، يناسب الوضع السوري الفريد على المستويين النظري الفكري والعملي السياسي. وكما أسلفنا، يتم البناء على ركائز ودعائم تشكل روافع الديمقراطية السورية، ومنها: ثلاثية الحرية والعقلانية والحداثة، التي تشكل أيضًا ركائز الدولة التي ترنو إلى تحقيق السعادة، وتستهدف بناء الفرد الإنسان ورفاهيته وكرامته، بوصفه إنسانًا، ثم تأتي ثلاثية المواطنة والمجتمع المدني والأحزاب الوطنية كأحد أهم روافع الديمقراطية، لتشكل هذه المفاهيم الستة -بمجملها- “مُسدس الديمقراطية الاستنادي”. المفاهيم الرافعة جميعها تحتاج لحوار نظري، وسعي سياسي حثيث؛ من أجل تشكيلها وتمتين بنيانها، تمهيدًا لتشكيل الديمقراطية السورية واستمرار تطويرها.

نعتقد أن هذه المقاربة النظرية قادرة على تقديم الديمقراطية بوصفها “بنيانًا وتنظيمًا سياسيًّا”؛ ما يجعل الظهورات الاستبدادية مستحيلة، ويضمن عدم إعادة إنتاج الاستبداد ضمن مسميات جديدة. والأهم أن هذا البنيان يرتقي بالإنسان السوري من كونه وسيلة لغايات الأيديولوجيا والسياسة، إلى أخذ السياسة وسيلة، غايتها وهدفها الأسمى هو الإنسان.

وفي الخاتمة نُشبِّه الاستعداد للديمقراطية بالاستعداد للسعادة، يوجد بعض الناس الذين إذا حدث ووقع نقص ما في التخطيط لرحلة يقومون بها، كأن ينسوا بعض لوازم الشواء، مثلًا؛ تجدهم يُطلقون الأحكام المطلقة، من قبيل: “نحن لا تليق بنا السعادة”، “من يوم يومنا منحوسين”، “ما يحصل معنا لا يحصل مع أحد في العالم؛ فكيف يمكن أن نفرح”… إلخ. هذه الأحكام المطلقة، الناتجة عن طريقة تفكير لا تناسب حالة الاستعداد للاستمتاع، تمنع وقوع السعادة على صاحبها، وتجعل من أبسط الأسباب كافية لخلق التعاسة والنكد، له ولمن حوله.

هكذا هو الاستعداد للديمقراطية، حيث يمكن وصفه بأنه نظرة إيجابية إزاء التحديات والعقبات، وفهم هذه العقبات على أنها طبيعية الحدوث، ولا يجب أن تؤثر في استعداداتنا النفسية وطموحنا نحو الأفضل والأمثل. وهذه هي بالضبط مشكلتنا مع القوميين العرب وأصحاب الأيديولوجيات الممانعة، وغيرهم ممّن يساهم في إنتاج الاستبداد؛ انطلاقًا من مقولة أن مجتمعاتنا غير مهيأة للديمقراطية بعد، أو أن إسرائيل على الأبواب؛ لذلك لا وقت للتطوير الديمقراطي، ويمكن القياس على ذلك اليوم أيضًا، عند سماع أحكام من قبيل “إن مجتمعاتنا إسلامية؛ فلا تليق بها الديمقراطية”، “الديمقراطية غير ممكنة بعد الحرب”، “الإسلاميون لن يسمحوا بنظام ديمقراطي؛ لذلك هو مستحيل”، “لن تسمح أميركا بقيام سورية ديمقراطية”… إلخ.

الوسوم

مقالات ذات صلة

إغلاق