هموم ثقافية

يم الكنعاني بحر العرب

عندما يكون أحدهم يحل الكلمات المتقاطعة، وتظهر له أحيانًا كلمة بحر، ليبحث عن معنى مرادف لها، يملأ به المربعين الفارغين، يتوجه سائلًا إياك: “بحر من حرفين؟”، فيأتي الجواب دونما تفكير أو تردد: يم. هكذا اعتدنا جميعًا أن نجيب؛ لأن هذه الكلمة رسخت في أذهاننا، وتثبتت مرادفة لكلمة بحر من دون أن نعرف أصولها، وكيف تسللت إلى العربية، أهي عربية خالصة أم معربة أم دخيلة؟

وللبحث عن هذه الكلمة ومن أين جاءت، نعود إلى لسان العرب فنجد الليث: اليم البحر الذي لا يُدرك قعره ولا شطّاه، ويقال: اليم لجّته.

 

وقال الزجاج: اليم البحر؛ وكذلك هو في الكتاب، الأول لا يُثنَّى ولا يُكسَّر ولا يجمع جمع السلامة، وزعم بعضهم أنها لغة سريانية فعربته العرب، وأصله يمّا، ويقع اسم يم على ما كان ملحًا زعاقًا، وعلى النهر الكبير العذب الماء، وأُمرت أم موسى حين ولدته وخافت عليه فرعون أن تجعله في تابوت ثم تقذفه في اليم، وهو نهر النيل بمصر. قال الله: فلْيُلْقِه اليم بالساحل؛ فجعل له ساحلًا، وهذا كله دليل على بطلان قول الليث إنه البحر الذي لا يدرك قعره ولا شطّاه.

 

وفي القاموس المحيط: اليم: البحر، لا يٌكسَّر، ولا يُجمَع جمعَ السالم.

 

وبقراءة سريعة وبسيطة في الميثولوجيا السورية نعثر على يم إله المياه البدئية عند الكنعانيين، ابن إيل، يتصارع مع بعل نقيضه الذي يمثل مياه السماء، إله الخصب الذي يقهر المياه البدئية لإحلال نظام الكون. ويسمى أحيانًا “نهر” عندما تكون الإشارة فقط للمياه العذبة، ومن هنا جاءت كلمة نهر العربية التي تشير إلى المياه العذبة الجارية فقط؛ فقد كان إله المياه كلها المالحة والعذبة، ونلمح ذلك في قول الزجاج السابق الذي جعل كلمة يم تطلق على النهر الكبير العذب الماء.

 

هو نظير “تيامات” أو تعامة البابلية؛ لأن الآلهة كانت تعد معادلات لبعضها في الحضارات اللاحقة، فيجري التحوير والتغيير في بعض الحروف من حذف وإضافة، لكي تتناسب مع الوضع الجديد في هذه الحضارة، ولتلائم لغتها؛ فأصول هذه الكلمة كنعانية مستمدة من البابلية. وفي أوغاريت يحمل اسم يمو، وأيضًا هو خصم بعلو، والصراع بينهما مستمر.

 

في قول الزجاج إشارة إلى أن الكلمة سريانية، والعرب في تلك الفترة لم تكن تعرف أبعد من السريانية؛ نظرًا لعدم وجود الكشوفات والتعرف إلى اللغات الأقدم منها؛ ولأن السريانية تداخلت مع العربية، وعرفت لدى العرب عن طريق المشتغلين فيها، من نقل وترجمة. وأيضًا وضّح أن التسمية تقع على الماء المالح وعلى النهر الكبير العذب الماء.

 

تفسير لسان العرب بالقول عن اليم إنه “لا يدرك قعره ولا شطاه” جعل المجال مفتوحًا للمياه، وصيّر هذا البحر واسعًا، عمقه وشطاه غير مُدركين، فهذه الدلالة تحيلنا إلى “يم” في الأسطورة السورية؛ إله المياه الأولى والبحر الأول، المُنتصِر عليه بعل ثم شرع بعد انتصاره بتنظيم العالم، وهو إله الماءين المالحة والعذبة؛ لذلك شرحت هذه اللفظة بأنها البحر الذي لا يدرك قعره وشطاه، لكن الزجاج دحض ذلك عندما استمد قول الله: فَلْيُلْقِه اليم بالساحل؛ فجعل له ساحلًا؛ فوجود هذا الساحل جعلنا ندرك أن له شطًا؛ لذلك هذه التسمية حسب الزجاج لا تصح هنا. وفي المقابل لا يُلام من جعل اليم بحرًا لا يدرك قعره وشطاه؛ ففي تلك الفترة كان المتوارث بين الناس يأتي من الحضارات والأمم السابقة، وكل حضارة تنشأ على أنقاض غيرها، فكلمة يم لديهم تدل على إله المياه البدئية؛ وهذه المياه لا يدرك قعرها وشطاها، وهي المحور في خلق الكون، وجزء في بناء أسطورة التكوين؛ فهي هيولى متخيلة أبدعها عقل ذلك الإنسان لتفسير وجود الكون، واستمرت في لاوعي البشر يتناقلونها دون تحديد واضح لمعناها.

الوسوم

مقالات ذات صلة

تعليق واحد

إغلاق