فكرة وقوف فلسطينيي سورية على الحياد، عندما اندلعت الثورة الشعبية السلمية المدنية في سورية، كانت منذ البداية هي الأكثر رواجًا وسط الفئات الأوسع من أبناء المخيمات؛ حتى لدى المناضلين الذين يعارضون النظام منذ زمن بعيد؛ فعلى خلفية عاملين ترسّخت آثارهما بوسط الفلسطينيين إلى حد بعيد، انبثق ذلك الخيار في ذهن ووعي أبناء مخيمات سورية.
والعاملان هما:
الشعار الذي أخذ مكانته في الوعي الفلسطيني، والذي يدعو إلى عدم التدخل في “الشؤون الداخلية” للدول العربية، والذي تبلور في التداعيات المعقدة لعلاقات المقاومة الفلسطينية مع البلدان العربية، ومن جرَاء الكلفة الكبيرة التي دفعها الفلسطينيون في مسار تلك العلاقات. وكان أحد مقاصده، كما أرادته القيادة الفلسطينية بزعامة ياسر عرفات، كف يد بعض الأنظمة عن التدخل -أيضًا- في سياسات ومواقف الحركة الوطنية الفلسطينية، ومنذ فترة السبعينيات.
والعامل الآخر، هو حضور عمليات القمع والتنكيل بالشعب الفلسطيني، في الذاكرة الحية للفلسطينيين جميعًا، والأثمان الغالية التي دفعوها في معمعة التناقضات الداخلية العربية، كما حالهم في الأردن ولبنان، ولاحقًا في العراق بعد الغزو الأميركي، ونهوض الطائفية والعنصرية ضد الفلسطينيين، على يد العصابات الطائفية المدعومة من طهران. وفي الخلافات البينية، العربية – العربية، دفع الفلسطينيون ثمنًا كبيرًا من العسف والاضطهاد والإبعاد وتجفيف مصادر العيش عنهم، بداية كان التناقض البعثي – البعثي، بين نظامي الأسد وصدام، وجاءت الكارثة عليهم في الكويت، إثر غزو صدام حسين لها، وتحميلهم تبعات إعلان ياسر عرفات ما يقترب من تأييد نظام صدام.
في الحصيلة، ومع انفجار الثورة في سورية، وجد الفلسطينيون في موقف الحياد عامل نجاتهم من التعرض لأعمال وحشية ودموية؛ فالخوف من حصولها، ومحاولة تجنبها، كانا السبب في الاحتماء “بالحياد”؛ ظنًا منهم، والفئات الشعبية الأوسع تحديدًا، أنهم سيتجنبون معه أي خطر ينال من حياتهم ووجودهم.
لسنا بوارد نقد هذا الموقف، فهو في كثير من جوانبه مبني على سوء تقدير للحالة السورية، وعلى محاولة “الاستقلال والانعزال” عن الحدث السوري، في الوقت الذي يشكلون فيه (الفلسطينيون) جزءًا مندمجًا في النسيج الاقتصادي والاجتماعي والسياسي للشعب السوري.
أما الحياد الذي لم يصمد، فالكل من المتابعين والمتعايشين مع أحوال الثورة، وتداعيات الصراع الذي احتدم نحو العنف و”العسكرة”، لابد أن يشهد على الحقيقة التي واجهت الفلسطينيين، وكانت السبب الرئيس لزجهم في الصراع. فمنذ بدء المظاهرات السلمية في سورية، راح النظام، عبر أدواته الأمنية، واعتمادًا على “الفصائل الفلسطينية” التي تأتمر بإمرته، يركز مساعيه لإبراز انحياز المخيمات إلى سياساته ضد الثورة، فنظم مظاهرات التأييد في شوارع المخيم، بالترهيب والترغيب، وبجهود “منظماته” ذات الطابع الأمني والاستخباري، إلى جانب رفع اليافطات التي تُمجّد نظام الطاغية، ونشرها في الأماكن البارزة من المخيم. وزاد على ذلك بإعطاء الأوامر لقيادات الفصائل الموالية له، وفي مقدمتهم جماعة أحمد جبريل، التي يُطلق عليها اسم “الجبهة الشعبية – القيادة العامة”، بتشكيل مفارز مسلحة من الرعاع، ونشرها على مداخل المخيمات (اليرموك والنيرب) بشكل أساسي، وتكليفها باعتقال المشكوك في ولائهم للنظام، حتى وهم لا يشاركون في أي مظاهرة احتجاج، أو أعمال مناهضة للدكتاتورية.
وتبين أن النظام رأى في موقف الحياد خسارة له، وهو الذي اعتمد التضليل باسم فلسطين والمقاومة والممانعة، فكيف له المضي في هذا الادعاء، والفلسطينيون لم يقفوا إلى جانبه، حتى وإن لم يُعلنوا معارضتهم له، فاعتمد التحريض ضد الفلسطينيين، واتهامهم أنهم يقومون بأعمال شغب وتخريب، في مخيمي درعا واللاذقية، وهو ما صرّحت به بثينة شعبان في الأشهر الأولى لانفجار الثورة السورية، للتنكر إلى حقيقة أن الشعب السوري قد حزم أمره بالملايين، ونزل إلى الشارع، مطالبًا بالحرية والكرامة، ثم بإسقاط الطاغية. وتوتر الوضع الفلسطيني بشكل خطر من جراء هذه الممارسات، أما مكنة النظام الأمنية والموالون له، فقد شرعوا في إرهاب المخيمات، بترتيب بعض التفجيرات داخلها، لتأكيد دعايتهم أن “العصابات المسلحة” هي التي قامت بها، وتبرير نشر القوى المسلحة التابعة للنظام داخل المخيمات، وحين رفضت حركة حماس مشاركة النظام بمواقفه، والقيام بمساندته، شن عليها حملة شعواء، وأغلق مكاتبها وطارد ناشطيها، في رسالة واضحة لجميع الفلسطينيين، فحواها، إما معي أو ستنالون العقاب.
هذه الممارسات من النظام وعملائه، بما تحمله من استفزاز واضح للفلسطينيين، وتزوير فظ لإرادتهم، استدعت، وبشكل طبيعي ردة فعل ضده، بدأت بمظاهرات شعارها “واحد واحد واحد فلسطيني وسوري واحد”، وسقط فيها عدد من الشهداء برصاص قناصة المخابرات وجماعة جبريل، فوجد الفلسطينيون أنفسهم في وضع لا يمكن السكوت عنه، فبدؤوا بتأمين الحماية للشباب السوريين الذين فروا إلى المخيم من الأحياء والبلدات القريبة، وشرعت هيآتهم الطبية تقوم -بدورها- بمساعدة الجرحى من المتظاهرين وإسعافهم، وتطور الأمر إلى استدعاء الحاجة للدفاع عن النفس بمواجهة قطعان الموت، من جماعة جبريل ورجال المخابرات المنتشرين في المخيم.
لقد حاول الفلسطينيون البحث عن مخرج من انتشار عصابات جبريل والآخرين، وترويعهم للسكان باسم حماية المخيم، فتبادرت لهم فكرة أن يقوم جيش التحرير الفلسطيني بحماية المخيم، وانسحاب مسلحي جبريل وعملاء النظام، ولم تلق هذه الفكرة القبول لدى النظام، فزاد من بطشه، وراح يقصف المخيم بالمدفعية، ويلصق المسؤولية عنها بـ “العصابات” مشيرًا -بذلك- إلى قوى الثورة السورية الموجودة في محاذاة مخيم اليرموك ومخيم النيرب في حلب. وإمعانًا منه في تحدي إرادة الفلسطينيين وفكرة “حيادهم”، بدأ بإرسال مجموعات من جيش التحرير الفلسطيني لقمع المظاهرات، كما هو في قطنا وحرستا، واغتال ضابطين من جيش التحرير، برتبة عقيد، وشى بهم عملاؤه بأنهم يهمسون بفكرة رفض المشاركة في قمع السوريين، والتزام جيش التحرير بحماية المخيمات وتأمينها من الأخطار فحسب.
المؤسف، أن موقف قيادات الفصائل، بشكل عام، ليس تلك القابعة قياداتها بدمشق فحسب، بل القيادات الأخرى كذلك، لم يتعامل مع الأزمة في سورية بشكل واضح، وكانت، عبر وفودها، تصبّ الماء في طواحين النظام؛ ما ساهم بترك المواطن الفلسطيني نهبًا لتضليلات النظام وادعاءاته، وازداد الضغط على المخيمات، اليرموك خاصة، فكانت “ليلة الميغ” كما يسميها الفلسطينيون، عندما قصفت بالصواريخ مسجد عبد القادر، وتجمعًا مدنيًا، منعطفًا حاسمًا تبعه نزوح كبير لأغلبية الفلسطينيين من اليرموك، وأصبح الفلسطينيون في قلب المواجهة، دون قرار مسبق منهم، وتعرض ناشطوهم الإعلاميون للاغتيال والاعتقال والمطاردة. ومع حضور مشكوك فيه للقوى السلفية، زاد وضع الفلسطينيين تعقيدًا، واستخدم النظام وأدواته هذا الحضور؛ لتصعيد الحرب والحصار على المخيمات والفلسطينيين عمومًا.
لقد تبين من تجربة الفلسطينيين، في غضون الثورة السورية، وبمحطات تداعيات الصراع، أن فكرة الحياد التي راودتهم، كانت محض رغبة، وأن جزءًا من الثمن الكبير الذي دفعوه، كان بسبب هذا الوهم، فالنظام المافيوي الوحشي، هو من أسقط تلك الرغبة، وكان المفترض أن تعي فعالياتهم ذلك، وتمارس الشعار الذي رفعه المتظاهرون في اليرموك “واحد واحد واحد.. فلسطيني وسوري واحد”.