تحقيقات وتقارير سياسية

حلب لديميستورا “نموت نموت وتحيا الأمم”

لم تزل أساليب التلاعب بالوقت والألفاظ، هي الشغل الشاغل للديبلوماسية الدولية فيما يتعلق بالشأن السوري، حتى وإن كان الموضوع مفاده تمرير سلّة غذاء أو علبة دواء.

منذ أيام، يدور الحديث عن هدنة لمدّة 48 ساعة في حلب، يتم خلالها إدخال بضع شاحنات تحمل أغذية إلى نحو 250 ألف سوري، موجودين في أحياء حلب الشرقية، ودار الجدل ليأخذ صيغة الهرج السياسي، وليعطي صورة بأن الأمور معقّدة، وكأننا أمام ابتكار سيغيّر مجرى العلم؛ فالمبعوث الأممي، ستيفان ديميستورا، الذي يبدو لنا أحيانًا من خلال الشاشات أنه (لا يمون) على مفتاح مكتبه، يترقّب تعليمات روسية وأميركية، بطريقة يظهر فيها وكأنه هو المحاصر المسكين، فيضع أولئك الأطفال المحاصرين الجائعين في موضع المُشفق عليه، وربما يتحضّرون ليهتفوا (نموت نموت وتحيا الأمم).

عندما أعلنت روسيا موافقتها على تلك الهدنة الإنسانية لأجل إدخال المساعدات، رحّبت عدّة دول بذلك، وهو ما يشير من حيث النتيجة إلى أن روسيا هي المتحكمة برغيف الخبز وعلبة الحليب وحبة الدواء؛ الأمر الذي طرح تساؤلًا حول ما إن كان السوريون أمام مشروع يشبه، من حيث الإطار السياسي، العنوان القديم والعريض بالعراق (النفط مقابل الغذاء)، ليصبح في سورية (الدم مقابل الغذاء)! فشدة القصف الذي قام به الطيران الروسي، قبل سيطرة قوات النظام السوري والميليشيات التابعة لها على طريق الكاستيلو، دلّ حينها على أن روسيا تريد الحصول على أي نصر حتى لو كان مجرد طريق، وهو ما حصل فعلًا؛ إذ بدأ وزير دفاعها بعد السيطرة على ذلك الطريق، وكأنه جنرال خارج من حرب عالمية، وبمواجهة قوى عظمى، ليعلن بفوقية عن منّة فتح معابر كي يخرج المدنيون من المناطق التي حوصرت، وفتح معابر أخرى كي يسلّم المقاتلون أسلحتهم لتسوية أوضاعهم، وهكذا كاستعراضٍ مسرحي لانتصار روسي بقطع طريق.

الكاستيلو الذي سقط من يد الروس بالمساومة

طريق الكاستيلو الذي كان المعبر الوحيد الممكن؛ لربط مناطق وجود المعارضة السورية الخارجة مع بعضها، كان مهمًا آنذاك للثوار وللمدنيين، إذ كانت بقية المناطق إما بيد قوات النظام أو وحدات حماية الشعب الكردية، أو تنظيم الدولة (داعش)، وبحسب الخارطة يكون النظام قد حجز مكانه بالحصار كجزء من ميليشيا، ويكون الروس رعاة ميليشيا وليسوا رعاة نظام، بالمسمى القانوني المتعارف عليه دوليًا؛ ولهذا كانت ردّة فعل كل هؤلاء، عندما استطاع الثوار فك الحصار عن تلك المناطق من منطقة الراموسة، والاستغناء عن الكاستيلو، لا تختلف عن ردّة فعل قطّاع الطرق الذين يعملون بالابتزاز، فقد استُنفروا جميعًا -بتوتّر واضح- أدى بالروس إلى أن يجن جنونهم، فيقذفوا القنابل العنقودية والفوسفور الأبيض على رؤوس المدنيين، وأصبحت سماء المنطقة لا تخلوا من طيرانهم، بل أحصى بعض الناشطين السوريين -حينها- أكثر من عشرين طائرة تحوم دفعة واحدة في سماء حلب.

تحرير مدرسة المدفعية والمدرسة الفنية الجوية وغيرها، والسيطرة على منطقة الراموسة، الذي بدوره أعطى الثوار مناطق واسعة للمناورة، وأنهى المتاجرة الروسية مع قوات النظام بطريق الكاستيلو، كان -في حقيقة الأمر- ضربة موجعة للروس أكثر من غيرهم، وذلك، استنادًا إلى ما عدّه وزير دفاعهم نصرًا عظيمًا، كما ذكرنا في الأعلى، وبدأ يضع شروطه، ولا شك في أن أميركا والاتحاد الأوروبي؛ وحتى الدول الإقليمية، تراقب ذلك، والروس يدركون هذا جيدًا، ومن هنا يتم ربط ما يجري من مساومات حول إدخال شاحنات غذاء، وإصرار ديميستورا على أن يكون المرور من خلال طريق الكاستيلو، فهو بالأساس رغبة روسية؛ كي تعطي لنفسها انتصارًا معنويًا، يصب -على الأقل- في إعادة الاعتبار لما خرج به على الإعلام -سابقًا- وزير الدفاع الروسي عن ذلك المعبر.

الفصائل والحكومة الموقتة تتقبلان الهدنة وترفضان شرط الكاستيلو

الثوار بدورهم فهموا هذه المسألة جيدًا، وعلى هذا أصدروا بيانهم الأخير في 27 آب/ أغسطس الجاري، يوافقون فيه على الهدنة، ولكنهم يطالبون الأمم المتحدة بإدخال المساعدات عن طريق الراموسة، مؤكدين أنه “أكثر أمنًا وأقصر مسافة”، وموضّحين في البيان، أن نجاح هذا الموضوع يتطلب هدنة شاملة لجميع الطرق في حلب، بينما خطة الأمم المتحدة المقترحة، تتضمن الأحياء التي يسيطر عليها النظام كافة، مع حي واحد يسيطر عليه الثوار، وهو مطل على طريق الكاستيلو المقترح من الأمم المتحدة، وقد أوضحوا ذلك بناء على الخرائط، وأرسلوها برسالة إلى بان كي مون الأمين العام للأمم المتحدة.

ما قدّمته الفصائل الموقّعة على البيان، من معطيات وبنود حول الفرق بين طريق الكاستيلو وطريق الراموسة، وحول استعدادها لضبط الأمن والتعاون مع المنظمات والهيئات الدولية كافة، وتقديم ضمانات لحماية الشاحنات، من المرجّح أنه أحرج الروس، وأوضح ضيق رؤيتهم للأمر، وبيّن للعالم أنهم لم يحققوا أي انتصار في حلب، وهذا البيان الذي وقّعت عليه عدّة فصائل مهمة وأساسية في حلب، يشير إلى أن خطة الأمم المتحدة كانت مفاجئة، كونها طرحت طريق الكاستيلو وأصرت عليه، فبدت بأنها تعطي شرعية للنظام للإشراف على تمرير المساعدات في حلب، وهي -في النهاية- رسالة للروس، أصحاب ذلك النصر المزعوم، والمغطى بأسلحة حارقة في طريق الكاستيلو، مفادها: أنكم، ومهما كانت قوة نيرانكم، ومهما دعمتم من ميليشيات، ففي حلب ما زلتم خارج خط الملعب، وما زال الثوار على الأرض هم من يقرر ما يلائمهم، وأن التلاعب بقوت المدنيين تحت عناوين مبادرات وهدن إنسانية، تفهمه الفصائل على أنه ليس سوى غطاء أو مكياجًا، غايته تلميع مواقف سياسية لهذا الرئيس أو ذاك أو لبعض الدول.

يُشار -في هذا السياق- إلى أن الحكومة السورية الموقتة، كانت بدورها قد استهجنت إصرار المبعوث الدولي على مرور المساعدات عبر طريق الكاستيلو، وأصدرت بيانًا أعلنت فيه رفضها لذلك، ومما ورد في البيان: “ما زالت الأطراف الدولية تسمح للعصابة المجرمة القابعة في دمشق وحلفائها، باستخدام ملف المساعدات الإنسانية للحصول على مكاسب سياسية، واستخدامها كوسائل ضغط على الشعب السوري، كما حصل في داريا والزبداني، ويُعمل على تنفيذه بحلب. إننا في الحكومة السورية الموقتة نرفض رفضًا قاطعًا اعتماد طريق الكاستيلو ممرًا وحيدًا لإدخال المساعدات الإنسانية الأممية”.

يبقى السؤال المطروح دائمًا من قبل السوريين، حول تلك التفاصيل التي تريد الأمم المتحدة إدخالهم فيها هو ذاته، وخاصّة مسألة المساعدات، لماذا الإصرار الدائم على إعطاء النظام السوري إمكانية القبول والرفض والإشراف، وهو الذي يحاصر شعبه، ووضُح بالدليل القاطع أنه غير مؤتمن على حمايته، بل يعمل على ترحيله، هذا السؤال ما زال لا يجد جوابًا واضحًا، طالما أن جرائم الحرب الكبرى التي ارتكبها النظام السوري، قد صدرت تقارير دولية تؤكّدها، ولكن أبواب المحاسبة ما زالت هي الأخرى مغلقة.

الوسوم

مقالات ذات صلة

إغلاق