تلك الشهباءُ حِجَارَتُهَا.. تُمثّلُ لي ثُلُث عُمري؛ ففي دفاتر أيامي ثالوثٌ من مُدُن الشام لا يُفَارِقُنُي: إدلب – حلب – دمشق؛ وقد تبقّى لي ثُلُثٌ أخيرٌ من حياتي؛ لأُكابِدَ فيه ما تقصفه الطائراتُ الأسدية/ الروسية من ذكرياتي في إدلب وحلب؛ فتُصِيبُنِي منها الشظايا؛ حتى لو كنتُ بعيدًا عنهما مسافةَ ثلاثِ عواصمَ من تغريبتي.
ولم أكُ أعلَمُ حين زرتُ حلبَ طفلًا؛ وتجاوزت باب الحديد إلى حيث تسكن عمّتي؛ بأن حلبَ أقدمُ المُدُنِ المأهولة بالسُكّان منذ 12200 عامًا؛ بحسب تقريرٍ لليونسكو؛ لكني تعلّمت من جَدَّتي لأبي -حين صعدتُ “التروماي” معها من ساحة “باب الحديد” إلى “حيّ الجميلية”- بأنّ الزمنَ لا يُقَاسُ بالسنوات فقط، بل بسيرورة زماننا في صيرورةِ مكاننا؛ حين أشارت جدّتي -لدى وقوفِ عربة التروماي الكهربائي في محطة ساحة “باب الفرج”- إلى الساعة العثمانية فيها منذ 1899م؛ هامسةً لي بأنّ جَدِّي -الذي لم ألتق به- قد أصلحَ الوجوهَ الأربعة للساعة، حين توقفت عقاربها عن الدوران في سَمتِها، خلال “السفر برلك” الحرب العالمية الأولى؛ وكان لها وجهان بالتوقيت الشرقي؛ وآخران بالتوقيت الغربي؛ فلمّا دخل حلبَ الجنرالُ الانكليزيّ مع جيش الأمير فيصل فيما يُسمَّى”الثورة العربية الكبرى” وَجَدَ عقاربَ ساعتها على توقيت برلين؛ فأمَرَ بأن تكون على توقيت لندن “غرينتش”.
همست جدّتي نَفُّوس: – كلّ حدا يحتلّ قلعة حلب.. يُغيِّر مواقيتَها على مِزَاجه.
وهو ما جعلني -فيما بعدُ- أنبش في دفاتِر أيامها؛ لأُدرِكَ بأنها تستعصي حتى على أبنائها؛ إذا لم ينكشف لهم بابُ سِرِّها؛ وهو سابعُ بابٌ لم تذكره الكتب حين تذكر أبوابها.. زائلةً وباقيةً: من باب العراق إلى باب أنطاكية، ومن باب النصر إلى باب السلامة، ومن باب قِنِّسرين إلى باب الفَرَج.
وما انكشفَ لي بابُ السِرِّ حتى زرتُ “حَبسَ الدم” في باطن قلعتها؛ وهو مغارة ارتجَّ الصمتُ فيها حين طلبتُ من الحارسِ أن يُطفِأ الإضاءة الشاحبة، فرأيتُ كيف يَتِمُّ إنزالُ الرجال بالحبال إلى سُرَّتها؛ مُتَحسِّسين أماكنهم بأيدٍ مُرتَعِشة، يرتكزون بظهورهم إلى جُدرانِها السحيقة… كالهاوية، وعلى أجسادِهِم آثارُ التعذيب.
في ظُلمةِ حَبسِ الدم رأيتُ أرواحَ مَن جَاهروا بالسِرِّ؛ ثمّ إنّهم عطشوا، تضوَّروا من الخوف والجوع والأمل العقيم، هزلوا؛ رأيتُ أحدَهُم يَقْشِطُ بأظافره لزوجةَ الكِلس، يلتهمها ثمّ.. يهدأ، يهدأ.. ثمّ تتقطَّعُ أمعاؤُه. أحدُهُم أخذ يضرِبُ رأسَهُ بنتوءٍ حجريٍّ في خاصرة المغارة، الآخرونَ استسلموا راقدين؛ بعضُهُم دَخَلَ في غيبوبةٍ، بعضُهُم في الهذيان؛ تمتم أحدهم يسألهم، أو يسأل نفسه، أو تَذْرو سؤالَهُ الريح: – من يعرف لماذا خلق الله الظُلَمَ وأعطى الظالمين عروشًا وجنودًا يبطشون، وبِطَانةً من القَوَّادين واللصوص.!؟
لوهلةٍ، رأيتُ في العتمةِ جُندَ حاكم حلب، صالح بن مِردَاس، يَئِدُونَ قاضي قضاتها، ابن أبي أسامة، في السنة 415 للهجرة، بدفنه في حَبس الدم حيًا؛ واقفًا في قبره على قدميه؛ سألتهُم: – لماذا تَئِدُونَه؛ قال العَسَسِيُّ:
- كاد يطالُ أعناقَنَا بعدالته.
لامستني روحُ جبرائيل دلال، الشاعِرُ، حتى مات في حَبسِ دَمِهِ عام 1892 للميلاد، لقصيدةٍ قالها عن الفجر في مُستهَلِّ أنواره!.
رأيتُ السهرورديَّ في حَبسِ دَمِهِ.. حتى نَزَلَ جُندُ الظاهر بن صلاح الدين الأيّوبي في عام 549 للهجرة؛ لفُّوا الحبلَ حول رقبته؛ فأنشدَ من حلاوة الروح:
وا رحمتا للعاشِقِينَ تكلَّفوا سِترَ المحبَّةِ والهَوَى فَضَّاحُ
بالسرِّ إن باحوا تُبَاحُ دماؤُهُم وكذا دِمَاءُ العاشقينَ.. تُباحُ.
رأيتُ النسيميَّ لِتوِّهِ.. مسلوخَ الجلد، مصلوبًا على باب القلعة؛ يُنشِدُ من تَوِّهِ:
البحرُ المحيطُ مَاجَ واضطرب
انكشفَ اللِثامُ عن السرِّ الأزليِّ
فكيف يُدَارِي هَوَاهُ العاشقُ الوَلهَانُ.
فلمّا ساءَت أحوالُ حلب اتجه وفدٌ منها إلى الموصلَ؛ فبايعوا أميرَها سيف الدولة سلطانًا عليها؛ حتى جاءَهَا في حَشدٍ من جنوده وحاشيته؛ فترجَّل الجميع لاستقباله على مشارفها؛ وقد كان قاضي قُضاتِهَا “ابنُ ماثِل” من أكثرِ قُضاةِ حلبَ نزاهةً وعدالةً؛ فلم يترجَّل، ساد الصمتُ لبرهةٍ وسيفُ الدولة على فرسه الصهباء وابن ماثل على بغلته البيضاء؛ فلمّا سأله السيفُ: – وَيحَكَ.. لماذا لا تترجّلُ لِسُلطَانِك؟! فأجابَهُ القاضي بسؤالٍ:
– ومتى رأيتَ العدالةَ تترجَّلُ؛ لتكونَ في ظلال أذنابِ الخيل؟!.
فاغتاظ سيفُ الدولة، وكان أولُ فرمانٍ له في حلبَ عزل القاضي النزيه؛ مُستبدلًا إيَّاهُ بقاضٍ تناسى الحلبيّونَ اسمَهُ ونِسبَتَه؛ فلم يُعرَف عندهم سوى بأبي الحُصَين؛ تميل كفّتا ميزان عَدلِهِ بأكياس الهدايا.. ذهبًا وبامتيازاتِ البِطانَة، حتى إنه ـ غيرَ مَسبوقٍ ـ قد أفتى:
كلُّ مَن ماتَ، فَلِسَيفِ الدولِة ما تَرَكْ، وعلى أبي الحُصَينِ الدَرَكْ! وكان ذلك استيلاء مباشر على مِيرَاثِ أبنائها من آبائهم بذريعة دعم الخزينة في الحرب ضد بيزنطة؛ فاستجارَ الناسُ من نارِهِ بالرمضاء، وتلكّأ السيفُ حتى عَزَلَهُ، قِيلَ: شَغَلَتهُ عن ذاكَ حروبُ الروم والإخشيديين، قلاقِلُ إخوتِهِ وأبناءِ عُمومَتِه، غُلمَانُهُ، وقد اشتراهم بُأموالِ الجبايات؛ ودَرَّبَهُم لقيادة عساكره، فلمَّا تَوَلُّوا الثغورَ شمالًا بعد فتحها انقلبَ أغلبُهُم عليه!.
رأيتُ كيف يجتمعُ في قاعة العرش النقيضانِ: سيفُ الشعر بسيف الدولة؛ حتى يتطامَنُ السيفانِ في مديحٍ تعقبه الكراهية؛ وكيف يهربُ المُتنبي إلى كافور الإخشيديّ؛ ليهربَ بعدّهُ سيفُ الدولةِ إلى “ميافارقين” -بعد حصار “نفقورَ” لحلب- تاركًا إيّاها لقصف منجنيقات البيزنطينيين؛ حتى استباحوها سبعةَ أيامٍ بلياليها؛ فأحرقوا جامعها الكبير وقصرَ سيفِ الدولة -قُربَ جبل الأنصاري- وكُرسيَّ عرشه في القلعة.
لوهلةٍ عرفتُ الفرقَ ما بين هروب المتنبي إلى مصر، مُتخفّيًا ليمدحَ الاستبداد الإخشيديّ نكايةً بالاستبداد الحمدانيّ؛ وبين لجوء عبد الرحمن الكواكبي إليها نجاةً بنفسه من الاستبداد؛ ليتابع هِجَاءَهُ لكلِّ استبدادٍ؛ حتى طالَهُ جسدًا بِدَسِّ السٌمِّ له؛ في مقهى من مقاهي القاهرة.
لوهلةٍ.. انكشف لي بابُ السِرُّ؛ بينما كُنتُ أتعرَّق في برودةِ المغارة التي لها اسم واحدٌ: حَبسُ الدَمّ؛ مُذ حَلَبَ سيِّدُنا إبراهيم الخليلُ شَاتَهُ الشهباءَ على التلّةِ إيَّاها؛ حيث أُشِيدَت القلعةُ وتوالى على حَبسِ دَمِهَا كُلُّ مَن قالَ: لا؛ وعلى قاعةِ عَرشها.. طُغاتُها وغُزَاتُهَا الزائلون