منذ أن طرحت روسيا والولايات المتحدة، متواطئتين ثم متفقتين، على ما أطلقتا عليه اسم الحل السلمي، كان موضوع “استمرار بشار الأسد” هو العقدة التي اتفقتا على توصيفها كذلك، وأرادتا لها أن تبقى ظاهرة أمام الملأ.
كان ذلك يعني، دون التصريح به أيضًا، وكما ثبت مع الأيام، بقاء النظام الأسدي، باسم الحفاظ على “الدولة” تارة، وباسم “حق الشعب السوري” في اختيار الرئيس الذي يريد، تارة أخرى، أي، بعبارة أخرى: عدم الاعتراف بوجود ثورة قام بها الشعب السوري ضد هذا النظام بالذات، ولا يزال يقدم التضحيات في سبيل أهدافها، من جهة، وحصْرُ شرعية مزعومة به وبمن يقف على رأسه، من جهة أخرى. كانت روسيا حاملة لواء هذه “الشرعية” التي دافعت عنها سياسيًا في المحافل الدولية، ثم عسكريًا على الأرض. ليست “شرعية” النظام المعنية هنا وحدها، بل كذلك “شرعية” التدخل الخارجي في سورية؛ إذ حين تعلن روسيا أنها لا توافق على قيام الآخرين بأي عمل عسكري دون غطاء شرعي أممي، تسمح لنفسها اصطناع “الشرعية” التي تريد، أي سواء تلك التي “تمنحها” لها “الحكومة السورية” غير الشرعية أصلًا، أو تلك التي تتيحها مكافحة الإرهاب، على أن يفهم هذا الأخير بوصفه مُمَثلًا في كل من يقاتل النظام الأسدي، أيًا كانت هويته!
كان كلُّ ذلك صريحًا وواضحًا في البيان الصادر عن مؤتمر جنيف الأول في 30 حزيران 2012، والذي كرّسَ الحل السياسي بوصفه المخرج الوحيد الذي دعت إليه روسيا وأميركا، وبموافقة أعضاء مجموعة العمل من أجل سورية المشاركة في هذا المؤتمر. لا وجود في هذا البيان لـ “العقدة” المشار إليها، لكنه يدل -سواء في صياغته الإجمالية أو في تفاصيله- على ما لم تكف روسيا، ومعها -منذ ذلك الحين- الولايات المتحدة وأعضاء مجموعة العمل، عن المطالبة به والدعوة إليه ومحاولة فرضه -الآن- بقوة السلاح، دون ذكره صراحة بالطبع؛ هيئة حكم انتقالي تضم الحكومة والمعارضة بقيادة بشار الأسد.
وعلى اختلاف ما ترمي إليه كل من روسيا والولايات المتحدة من تحقيق “الحل السياسي”، إلا أن كلًا منهما حرص على الإعلان عن التنسيق الكامل القائم بينهما، سياسيًا وعسكريًا، طوال المسار الذي يفترض أن يؤدي إلى الحل المرسوم والمنشود من قبلهما.
كانت تلك -إذن- هي الحجة بامتياز من أجل العمل على استمرار الحرب وإنهاك الجميع، لا نظامًا ومعارضة مسلحة فحسب، بل كذلك القوى الإقليمية التي انخرطت في الحرب مباشرة إلى جانب النظام الأسدي، كإيران التي كان العمل معها جاريًا على إنجاز الاتفاق النووي بسرعة، وكذلك، فيما بعد، ذيولها من الميليشيات العراقية واللبنانية التي جندتها لخدمة مطامحها الإقليمية. وكان من الضروري -في الوقت نفسه- الحدُّ من طموحات القوى الإقليمية الأخرى المناهضة للنظام الأسدي، ولا سيما تركيا والسعودية وقطر، والتي يدعم كلٌّ منها قسمًا من القوات السورية المقاتلة على الأرض، بجعلها تضطر هي الأخرى -في النهاية- إلى الخضوع لقواعد هذه اللعبة التي فرضتها كل من روسيا ومن ورائها أميركا، وصولًا إلى جعلها -بطريقة أو بأخرى- تقبل مبدأ إعادة تأهيل النظام الأسدي من خلال قبولها ببقاء رأس النظام خلال الفترة الانتقالية.
كانت العناوين واضحة أمام الجميع؛ ذلك أنه على الرغم من التكرار الممل الذي كان نزيل البيت الأبيض يقوم به حول “فقدان الأسد شرعيته”، بقي النظام موضع اعتراف أممي في منظمة الأمم المتحدة وسائر المنظمات التابعة لها، وبوصفه -بالطبع- طرفًا رئيسًا في مفاوضات الحل السياسي الذي وضعت أسسه في مؤتمر جنيف الأول، دون نسيان الكيفية التي تمت بها “معاقبة” النظام الأسدي على استخدامه السلاح الكيماوي، والتي كانت تعبيرًا بليغًا عن طبيعة الخطوط الحمر التي كانت توضع أمام هذا النظام.
بَيْد أن ما شهدته سورية والمنطقة من حولها من أحداث غيرت المشهد الذي كان قائمًا في منتصف عام 2012 كليًا؛ فإيران التي حاولت تقديم الدعم العسكري من خلال ذراعها العسكري المحلي في لبنان، بحجة “الدفاع عن المقامات المقدسة”، ثم اضطرت إلى تقديم دعم آخر عبر ميليشيات مؤلفة من مرتزقة عراقيين وأفغان، ثم إلى الزج بضباط حرسها الثوري قوادًا ومستشارين، وصولًا إلى قيادة العمليات الأرضية كافة، باتت هي صاحبة الكلمة الأولى في سورية إلى أن دخلت روسيا بقواتها الجوية وقاعدتيها العسكريتين في طرطوس وحميميم ميدان المعركة في محاولة حثيثة، آملة أن تكون حاسمة؛ لفرض فهمها للحل السياسي وفرضه على الأطراف جميعًا، ثم إلى محاولة تقليص دور تركيا في الشأن السوري إثر تدهور العلاقات الروسية ــ التركية بعد إسقاط الطائرة الروسية، وصولًا إلى محاولة الانقلاب العسكري الفاشلة في تركيا ومحاولة إعادة ترميم تحالفات جديدة، يسعى كل طرف فيها إلى تحقيق أقصى ما يستطيع من أهدافه.
على أن التغيير الأساس هو ما أدى إليه تكوين هذا المشهد بدءًا من نهاية أيلول 2015، والذي جعل رأس النظام الأسدي مجرد موظف لدى قوتي الاحتلال: الروسية والإيرانية في سورية بدرجة رئيس “دولة” حتى إشعار آخر، يحرص على وجوده المحتلان الحليفان على اختلاف مراميهما من وجوده في بازار المفاوضات وعلى اختلاف شروط كل منهما للتنازل عنه والقبول ببديل يحل محله.
ومن ناحية ثانية، لم يكن من الممكن لأي طرف إقليمي، من مناهضي النظام الأسدي، أن يرفض أو يعارض مسار الحل السياسي المرسوم. لقد بدا، لوهلة، أن التنسيق بين السعودية وتركيا وقطر خصوصًا يمكن أن يفرض رؤية مشتركة في مفاوضات الحل السياسي. لكن التعديلات الأخيرة في الخيارات العاجلة الأخيرة للحكومة التركية يمكن أن تنال من طموح هذا التنسيق في فرض رؤيته، أو -ربما- في تعديل مسار الحل السياسي كما يراد له أن يكون.
كما لم يكن من الممكن، من ناحية ثالثة، لأيّ طرف من أطراف المعارضة السورية أن ينأى بنفسه تحت طائلة محاربته وإلغاء دوره نهائيًا. ذلك في الواقع ما تقتضيه الممارسة السياسية. لكن الممارسة السياسية لا تقتضي بالطبع، ولا يجب أن تفضي إلى التنازل عما يُعدّ أساس المهمة التي تصدت لها المعارضة، ممثلة بالهيئة العليا للمفاوضات؛ لتمثيل الشعب السوري الثائر.
من الواضح أن واحدًا من أسباب إصرار روسيا على تعويم الأسد ونظامه، وفرض قبوله على القوى الإقليمية والدولية، أنها لم تعثر -بعدُ- على من تجد فيه المؤهلات الضرورية للقيام بدور البديل وفق دفتر الشروط المعد سلفًا، والذي كان قد استجاب له النظام الأسدي جملة وتفصيلًا طوال نصف قرن. أيًا كان مآل هذا البحث فإنه يعني، بكل بساطة، أنه إذا كان الأسد دورًا وعائلة قد انتهى، فإن النظام الذي بناه لم ينته.
أما التقسيم، كمشروع مطروح، فهو مسألة أخرى.