أدب وفنون

بالون في المدرسة

(1)

فتش الدرج الأول ثمَّ الثاني وعندما وصل إلى الثالث جثا على ركبتيه وفتحه، كان والده قد خرج إلى عمله منذ دقائق، بينما أمه لا تزال في المطبخ تصنع له سندويشة اللبنة.. انتهز الفرصة وتسلل الطفل رامي إلى غرفة نوم والديه بسرعة -هذا الصباح- قبل ذهابه إلى المدرسة، ليبحث في الأدراج عن العلبة الكبيرة للشوكولا.

 

لم يعرف أين تخبئها والدته، في الدرج الثالث عثر على علبةٍ غريبة تشبه علبة الشوكولا، فتحها على أمل أن تكون شوكولا لكن من نوع آخر، شهق وهو يتأمل هذا العدد الكبير لـ الواقيات الذكريّة الموجودة داخل هذه العلبة، ابتسم رامي ببلاهة الأطفال، التقط واحدًا ورفعه ليتفحصه بنظراته عن قرب.

– يا إلهي ما أجمل هذا البالون.. متى جلب والدي علبة بالونات؟. ولماذا لا تعطيني أمي واحدًا منها؟..

قرر أنّ يسرق واحدًا، سمع أمه تناديه من المطبخ، أغلق بسرعة علبة الواقيات الذكريّة ثمَّ الدرج، في المطبخ، أخذ من أمه السندويشة ليدسّها دون أنّ تنتبه مع البالون -كما تخيلّه- الذي سرقه توًّا، في حقيبته بين الكتب والدفاتر وأسرع إلى مدرسته ليدخل مع أصدقائه الصغار الصف الأول الابتدائي.

 

رنّ الجرس معلنًا انتهاء الحصة الدراسيّة الأولى، لتخرج المعلمة والتلاميذ، التقط رامي حقيبته وأخرج هذا البالون، قال لسامي الجالس جانبه على ذات المقعد:

– انظر.. لقد جلب ليّ أبي بالونًا من هولندا.. لدينا أقرباء في هولندا..

تأمّل سامي هذا البالون الغريب، ابتسم وقال:

– وااااو.. بالون جميل.. لكن شكله غريب..

– لأنّه أصلي.. صناعة هولنديّة..

بالتناوب حاولا أنْ ينفخاهُ ليلهوا به قليلًا، لكنهما عجزا -بعد عدة محاولات- وقد تلوّن وجهاهما بلونٍ أحمر.

اقتربتْ منهما أميرة فسألتهما بفضول:

– ما هذا؟..

– إنّه بالون من هولندا.. لكنه أصلي جدًا، لم نستطع نفخه.. يحتاج لمنفاخ كرات حتى ننفخه..

أجابها رامي وهو يتأمّل بالونه بخيبة، أخذته أميرة وجربتْ بأنّ حاولتْ نفخه، بعد عدة محاولات استطاعتْ أنْ تنفخه قليلًا، فأسرع رامي ليربط فم البالون بخيط. ضحكوا بفرح، وأخيرًا استطاعوا نفخ البالون ولو قليلًا، ثمَّ بدؤوا يلعبون برميه لبعضهم من بين المقاعد بصخبٍ طفولي.

دخلتْ المعلمة سعاد إلى الصف فانتبهتْ لهم، كادتْ ألّا تكترث لأمرهم.. لكنها انتبهتْ لهذا الشيء الغريب بين كفي رامي، سألته مستغربةً:

– ما هذا؟..

– إنّه بالون.. جلبه لي والدي من هولندا..

مطّتْ شفتها وهي تقترب أكثر وتمعن نظرها في هذا البالون الغريب، سرعان ما شهقتْ برعب وهي تتراجع خائفةً وكأنّها شاهدتْ جثّة فأرٍ على يديّ رامي، سقطتْ لتحبو على أطرافها حتى باب الصف وجسدها يرتجف بشدة، وقفتْ ثمَّ صرختْ على رامي بغضبٍ عارم:

– الحقني إلى غرفة الإدارة يا قليل الأدب..

خرجتْ مسرعة وكأنّها تفرُ مذعورة من شبحٍ مخيف.

الأطفال استغربوا جدًا سلوكها، لم يفهم رامي لماذا حدث كلّ هذا للمعلمة سعاد، إنّه مجرّد بالون. مشى ليخرج من الصف متجهًا إلى غرفة الإدارة، دخلها ليمرّ جانب صورة كبيرة معلقة جانب الباب لزعيم البلاد بثيابه العسكريّة ونظرته الحادة.

ما إنْ دخل -وهذا البالون بين يديه- حتى نهضت المعلماتُ كلهنّ عن كراسيهنّ، وكانتْ قد حكتْ لهنّ المعلمة سعاد قصة البالون، ليتراكضن بخوف خلف مكتب المديرة ويقفن بفزعٍ وراء كرسيها، وهنّ يصفعن أعينهنّ. كادَ رامي أنْ يجنّ بسبب هذا السلوك الغريب للمعلمات، بينما المديرة تصرخ عليه من بعيد:

– توقف مكانك.. لا تقترب أكثر.. والله أذبحك..

– إنّه بالون.. بالون أصلي..

– بالون يا ابن الكلب!!..

تمتمتْ إحداهن بحنق، كنّ يرمقن البالون عن كثب برعبٍ شلَّ ملامح وجوههن، وأجسادهن تتلاصق ببعضها خوفًا، وكأنّ هذا البالون وحش ينوي أنّ يفترسهن الآن.

صرختْ المعلمة عائشة:

– ارمه من يدك في سلة المهملات تلك..

التفتتْ إليها المديرة وقد جحظتْ عيناها من هول ما سمعتْ:

– أتريدينه أن يرمي هذا الشيء البشع في سلة غرفتي، وبعد نهايّة الدوام يأتي المستخدمُ أبو عامر ليأخذ الأوساخ فيعثر عليه ليشك بأمري؟. ثمَّ يكتب تقريرًا للرفاق في القيادة العليا حول هذا الشيء المقرف، لأطرد وقتها من المدرسة وتتشوه سمعتي.؟ عليك اللعنة.. اسمع يا وغد، خذّ هذا الشيء الحقير إلى الصف الذي تدرسه المعلمة عائشة وارمه في سلته..

أسرعتْ إليها المعلمة عائشة وهي تجهش بالبكاء:

– أتوسل إليكِ يا سيدتي لا تؤذي سمعتي.. أقسم لكِ لم أكن أقصد أنّ أسيء لكِ..

زفرتْ المديرة بحنق، وكان رامي -خلال هذه الملاسنة الكلاميّة- يبكي وهو يهذي:

– إنّه بالون.. إنّه بالون.. إنّه بالون..

– كيف سنتخلص منه..

قالتْ المديرة وكأنّ هموم الدنيا كلّها قد استباحتْ روحها، فأجابتها المعلمة خديجة:

– ليخرج من المدرسة ويرميه في الحاوية على الرصيف أمام الباب..

كادت المديرة أن توافق على هذا الاقتراح، لكن المعلمة فاطمة همستْ لهنّ محذرة:

– في الليل عندما يأتي عمال البلديّة بسيارتهم لإفراغ الحاوية، سيعثرون على هذا الشيء بجانب مدرستنا.. وقتها سيكتبون تقريرًا عنه للرفاق في القيادة العليا، عندئذٍ سوف تتشوه سمعة كلّ معلمات المدرسة..

تأففتْ المديرة، وهي تصفع جبينها، علّها تعثر على طريقةٍ للتخلص من هذه المصيبة اللعينة التي حلّتْ على مدرستها دون فضائح.

– إنّه بالون.. إنّه بالون.. إنّه بالون..

عندئذٍ صرختْ به المعلمة صفية:

– خذّ هذا الشيء القذر إلى حديقة المدرسة واحفر حفرة ثمَّ اطمره بها..

معًا، ابتسمن لهذه الفكرة، من بين دموعه، قال لهنّ رامي متلعثمًا بخياله الطفولي الساذج:

– بعد المطر سوف تنبتْ شجرة مكان الحفرة وعلى أغصانها بالونات كثيرة مثل هذا..

لوهلة صدقنّ كلامه من شدة خوفهنّ من هذا البالون.

قالتْ لهنّ المعلمة أسماء:

– يمكن في أيّ لحظة أنّ ينكش طفلٌ آخر هذه الحفرة وتعود المصيبة من جديد..

تنهّدن، ثمَّ شعرنّ أنّ حياتهنّ في هذه المدرسة سوف تنتهي نهاية بشعة بسبب هذا البالون.

– إنّه بالون.. إنّه بالون.. إنّه بالون..

لا يزلنَ يرمقنَ خلسةً ذلك البالون بطرف أعينهنّ، إلا المعلمة هند وهي الوحيدة بينهن غير متزوجة، كانتْ تنظر إلى البالون بخوفٍ أقلّ وفضولٍ أكبر، انتبهتْ لها المعلمة دعد فشتمتها في سرها.

سألته المعلمة يسرى:

– كيف استطعتَ أنْ تنفخه؟..

– أنا لم أستطعْ.. أميرة نفخته..

– ماذا؟..

– أميرة وضعته في فمها ونفخته..

وكأنهنّ في عزاءٍ، كلهنّ صرنَ يصفعنَ خدودهنّ ليعلو بكاؤه أكثر.

– إنّه بالون.. إنّه بالون.. إنّه بالون..

أثناء صفعاتهن اللئيمة، وقفتْ المديرة فتوقفتْ الصفعات بعد أنّ احمرّتْ خدودهن، قالتْ لرامي:

– اذهب إلى خلف غرفة الإدارة واجمع الأوراق عن الأرض.. ضع بينها هذا الشيء الوضيع وأشعل بها النار..

التقطتْ عن طاولتها علبة ثقاب لتقذفها إليه عن بعد.

– إنّه بالون.. إنّه بالون.. إنّه بالون..

انحنى رامي ليلتقط عن الأرض علبة الثقاب وهو يهذي من بين دموعه.

استدار ومشى.. قبل أنّ يخرج نظر صدفةً إلى وجه الزعيم في صورته الكبيرة جانب الباب، فاقترب منّه بسذاجة الأطفال، وهو يمدّ له يده بـ هذا البالون ويقول له بحزن علّه يكون الوحيد هنا من يصدقه:

– انظر يا سيدي.. إنّه بالون.. إنّه بالون.. إنّه بالون..

فجأةً، وبرعبٍ، احتلَّ وجهه ولخبط ألوان صورته، خرج الزعيم من إطار الصورة ليهرب بعيدًا عن هذا البالون.

 

(2)

خلف غرفة الإدارة انحنى رامي ليجثو أمام هذه الأوراق التي جمعها إلى بعضها، بعد أنْ لفها حول البالون.. جرّب عدة أعواد ثقاب، إلى أنّ نجح في إشعال أحدها.

المديرة والمعلمات كنّ قد تكومنَ فوق بعضهنّ خلف النافذة ليراقبنَ إحراق البالون حتى تطمئن أرواحهنّ.

أدخل عود الثقاب المشتعل بين الأوراق، وظلَّ جاثيًا يتأمل هذه النار وهي تعلو وتتسع، تأملها بهدوءٍ ورأسه يميل ببطءٍ إلى كتفه.. شعر أنّ النار صارتْ أعلى واتسعتْ أكثر لتحرق غرفة الإدارة ثمَّ المدرسة ثمَّ المدينة ثمَّ البلاد كلها.

أحرقتِ النار كلَّ الأشياء كما خيّل له، باستثناء شيءٍ واحد لم تحرقه، باستثنائه هو مثلما شعر، رامي ذاته الذي أشعلها منذ برهة.

عندئذٍ، وبعد بكاءٍ طويل.. ابتسم.

 

الوسوم

مقالات ذات صلة

إغلاق