مقالات الرأي

تركيا في سورية أم خارجها

مرّ الموقف التركي من الثورة السورية بمراحل عديدة، ترافقت بتغييرات سياسية عسكرية شديد التفاوت. وفي قراءة محايدة، نُدرك أن الوضع التركي شديد الحساسية، ويتأثر بقوة بأيّ متغيّر في الأراضي السورية عمومًا، وفي الشمال السوري المحاذي لحدودها على وجه التحديد، بما له من خصوصية مُعقّدة ومُركّبة عبر التداخل الجغرافي ذي الأبعاد التاريخية لمكونات الكتل البشرية، أو الحلم التاريخي صاحب الجذور القومية والدينية في المنطقة.

 

حاولت الولايات المتحدة الأميركية مطلع عام 2012 وحتى منتصف 2013، الزّج بالقوة العسكرية التركية للتدخل في سورية، عبر إرسال رسائل غير مباشرة تدعم هذا التوجه، وعندما وجدت تركيا نفسها قريبة من التورط عسكريًا، خفضت لهجتها التهديدية العسكرية المباشرة تجاه السلطة الحاكمة في دمشق، واكتفت بالدعم اللوجستي لبعض القوى الفاعلة في الساحة السورية (سلبًا أو إيجابًا)، وراحت تلعب لعبة السياسة والتكتلات، ودخلت في صراع مرير مع المنافسين الإقليميين والدوليين، مُحاولَةً منها لرفض سيناريو خطِر، نتيجته أن تصبح كبش فداء في مواجهة عسكرية قد لا تستطيع الفكاك منها، وأن تغرق في مستنقع فرض الأمن وضبط المجموعات الثورية والإسلامية والمتمردة؛ ما يعزّز القناعة ببقائها لعشرات السنين في هذا المستنقع، وبالتالي، يعيق ويوقف عجلة التنمية، ويستنزف القوة الاقتصادية التي تعد الفانوس الذي أوصل أردوغان وحزبه إلى سدّة الحكم واستمرارهم فيه.

تتلخص المحاذير التركية بما يخص التدخل المباشر في سورية في ثلاث نقاط: الأكراد، الوضع الداخلي، وأخيرًا الوضع الدولي المُعقّد والمتشابك.

 

بالنسبة للأكراد، لن تسمح تركيا بقيام دولة كردية في الشمال السوري، ويساعدها على ذلك أن الوضع الدولي غير مهيأ لمثل هذه الفكرة، وتركيا تستشعر خطرًا كبيرًا على أمنه القومي من هذه الفكرة. لأن جزءًا من شعبها كردي الأصل، يُقدّر بالملايين، ويتمركز في المناطق المحاذية للشمال السوري، ويمكن أن يحاول استمالة الطائفة العلوية التركية التي لا يستهان بعددها أيضًا، وهذا يعني أن قيام دولة كردية في الشمال السوري، سيحوّل الجنوب التركي إلى خاصرة رخوة موجعة وخطِرة.

 

أما المتعلق بالوضع الداخلي، فإن تركيا (الأردوغانية) لن تُغامر بفقدان فانوسها السحري الذي أوصل حزب العدالة إلى سدّة الحكم وأبقاه، وهنا نقصد الاقتصاد، فمعدلات التنمية في ظل تدخّل عسكري مباشر في سورية لن تصمد طويلًا، وستنهار بسرعة في لعبة الحرب، أو على الأقل ستُقلل من فرص البقاء في الحكم، عبر انقلاب كما حدث، أو طوعًا عبر الانتخابات، وهذا الملف الاقتصادي يدفع بقوة إلى الاعتقاد بأن أي عمل عسكري تركي في الشمال السوري، سيكون جراحيًا قصير المدى.

 

والأمر الثالث، والمتعلق بالوضع الدولي، فمعقد جدًا، حيث لن يحتمل الوضع الدولي حربًا جديدة، إلا في إطار محاربة الإرهاب الأصولي التكفيري كـ (داعش)، بينما تريد تركيا تغيّر النظام وسقوط الأسد، ليتسنى لها الدخول في تحالف “اندماجي” مع السلطة المقبلة، وهذا الحلم لا يتطابق مع الرؤى الدولية، والموقف العام الذي لم يرق -بعد- إلى درجة لزوم إنهاء الأسد ونظامه، لافتقاد البديل، وهيمنة التيارات الأصولية على بقع جغرافية كبيرة، بينما الكتل الديمقراطية والمدنية مشتتة.

 

لا تغيب عن البال الحدود الطويلة بين تركيا وروسيا، وتركيا وإيران، وتركيا والعراق (كردستان العراق)، فهي ستُقلق الساسة والعسكر الأتراك على حد سواء، ذلك إن تطورت الأحداث ووقع ما لم يكن في الحسبان، كما أن الموج الهائل لوفود اللاجئين السوريين، قد تعجز أمامه أقوى الدول الاقتصادية، وسيُشكّل عبئًا لا يستهان به، والبديل الأسلم لتركيا هو إقامة منطقة عازلة على الحدود داخل الأراضي السورية، مع تأمين غطاء جوي؛ للتخفيف من وطأة هذا الهاجس (اللاجئين) لتكون ملاذًا آمنًا لهم.

 

في السياسة لا توجد ثوابت مطلقة، فالمتغيرات كثيرة، لذلك من المستبعد أن تتورط تركيا في تدخل عسكري مباشر كبير، أو أن يكون امتداده الزمني طويلًا، إلا في إطار فعل دولي يحشد له الغطاء القانوني، عبر سيناريو ممكن تلوح روائحه في الأفق، ويبقى عرّابه الأقوى المملكة العربية السعودية.

 

ها قد عادت جرابلس خالية من (داعش)، ومن القوات الكردية المسلّحة، ومازال التقارب التركي الروسي، والتركي الإسرائيلي، والجفاء التركي الأميركي، والطلاق التركي الأوروبي، يخلط الأوراق، ويدفع الجانب التركي إلى إعادة حساباته الخارجية، بما يتلاءم وأوضاعه الداخلية، ما يجعلنا في حالة توجّس من مفاجآت قريبة.

الوسوم

مقالات ذات صلة

إغلاق