مقالات الرأي

القوميون والإسلاميون أشقاء الوهم

لم يدر بخلد هارون الرشيد وقيصر الروم، وهما يتراسلان ويتبادلان الهدايا، أن ما يقومان به اسمه “العلاقات السياسية والتبادل الديبلوماسي”، وأن كلًا منهما حاكم لـ “دولة”؛ فلم يكن في زمانهما تراكم معرفي، يقتضي هذه التعريفات؛ فلا حاجةً إلى تعريف الرعية كـ “مواطنين”، وسلاسل جبال طوروس كـ “حدود دولية”؛ كي يعلم كلاهما ما حصته من مياه نهر الفرات؛ فما ورثاه عبر آلاف السنين، أن الرعية توابع للحاكم، والحدود تخضع لقوة الجيش، والمُلك يأتي بالوراثة. أما الرعية فقد قبلت أن الحاكم قضاء الله، سواء برضا الفقيه والبابا أم الكاهن؛ فكان أقصى أماني الرعية أن يكون الحاكم عادلًا مقسطًا كابن الخطّاب، وأقصى مخاوفها أن يكون سفاحًا كالحجاج؛ فيغلب منهج الحاكم الظالم على منهج الحاكم العادل في تاريخ البشرية كلها.

 

غابت أوروبا -خلال العصور الوسطى- في بحور من الظلام، تحت حكم الملك – الكنيسة، لكن الشرق تابع تألقه حاكمًا للعالم، وحاملًا للحضارة، ثم أتى دور أوروبا؛ لتكون ساحة لصهر الخبرات البشرية المتراكمة، فاستيقظت من كوابيس الحلف الإقطاعي- الكنسي، لتؤسس مفاهيم حديثة، تتماشى مع سعي العالم؛ ليكون أصغر من رحلات الخيول والجمال. لقد ظهرت مفاهيم الدولة الحديثة والمواطنة وحقوق الإنسان والقوميات، وازدادت تعقيدات تنظيم حركة السيارات والسفن والطائرات، وبالتوازي، تضخمت وتعقدت حركة الأموال والأفكار والأيديولوجيات والعسكر عبر العالم؛ واستهلكت هذه التطورات أرواح عشرات الملايين من البشر في أوروبا ذاتها، وفي العالم؛ وبعد دفع الأثمان الباهظة تلك، وصلت البشرية إلى ما بعد الحرب العالمية الثانية؛ لتحاول تنظيم الدول ضمن قوانين وقواعد السياسة والعلاقات الدولية، لكن، لا لخدمة البشرية، وإنما لخدمة ماكينة السوق التي يزداد تسارع حركتها ونهمها كل يوم.

 

في تلك اللحظات، أي بُعيد الحرب العالمية الثانية، استيقظت شعوب منطقتنا من سبات طويل، امتد لعدة قرون على خبر “مفاجئ”، وهو “الدولة الحديثة، الأحزاب السياسية، العلاقات الدولية، الحروب العالمية، التلغراف والطائرات، البنوك والبورصات”؛ فتراكض المثقفون، وبالأصح القارئون، من بين أمية وصلت نسبتها إلى 90 بالمئة، إلى اقتحام هذا الفضاء البشري الجديد، حملوا همّ الناس والشعوب والوطن والدين وصور الماضي المشرق، وأرادوا صياغة حاضر ومستقبل مزدهر، لكن بعيون تشتاق إشراق الماضي وليس إبداع المستقبل؛ نهلوا بنهم من الشيوعية والاشتراكية، والليبرالية والرأسمالية، والسلفية الابن تيمية والوهابية والخمينية، فاختلفوا شيعًا وأحزابًا؛ كان سباق خيول محتدم بين المتسابقين، لكن من سوء حظهم وحظ هذه الشعوب، أن خيول القرن العشرين الأسرع، لم تعد الخيول الأصيلة، بل المؤتمتة التي تعمل على النفط والبورصة؛ كان السباق سريعًا وقاسيًا فوق أرض الأنبياء المكلومة؛ فتطورت النظريات القومية والاشتراكية والليبرالية، وتم ضخ النفط بغزارة؛ لاختلاق شكل مستحدث للإسلام، مُقيدٍ بأغلال ثقيلة، متجذرة في عصور الظلام الإسلامية، الممتدة منذ القرن 12 الميلادي.

 

وجد القوميون العرب أنفسهم في السلطة بشكل مفاجئ وصاعق، فقدوا فيه ما لم يكتسبوه أصلًا، وهو فن وعلم إدارة الدول والمجتمعات البشرية، ضمن صراع دولي متوحش بين أقطاب السوق؛ فغرقوا -تدريجيًا- في الديكتاتورية العصرية، لكن بالأساليب القديمة نفسها من قمع وظلم؛ وتحول الحزب والقائد إلى كاهن مقدس، يضمن بوجوده قومية ملايين الناس ومصالحها، برضاها أو رغمًا عنها؛ وكنتيجة لذلك، تحوّل الأب الشرعي للإسلامية السياسية، وهو جماعة الإخوان المسلمين، إلى سراديب العمل السري، وخاض حربًا دموية متصلة مع الحاكم “القومي” في مصر وسورية.

 

أعاق الدخول السريع للسياسي “القومي” العربي إلى قصور الحكم الديكتاتوري، والدخول السريع للسياسي “الإسلامي” في أنفاق العمل السري، الفريقين عن فرصة التطور الطبيعي، خصوصًا أنهما لا يعدوان أن يكونا سمكتين ضمن النهر الجارف للصراع الدولي في القرن العشرين، وبداية الألفية الثالثة؛ فعاش أتباع الفريقين ضمن عوالم خيالية، تستند إلى الماضي المجيد، وفي الوقت نفسه، لا تستطيع إدراك الفرق بين ذلك الماضي الغائر، وبين الحاضر الطائر على صواريخ عابرة للقارات؛ الفريقان كلاهما ارتديا دروع المقدس القومي أو الديني، وفصّلاه على مقاس قاداتهم ومنظريهم، شيوخًا كانوا أم فلاسفة.

 

وصلت شعوب هذه المنطقة إلى الألفية الثالثة؛ فاكتشفت أن الديمقراطية ليست مستحيلًا، والحرية ممكنة، والعدل الاجتماعي -بحده الأدنى- واقع حقيقي، وأدركت أن عصمة القائد المناضل أو المرشد أو الأمير أو الولي الفقيه مجرد أساطير لتراث ملأه الغبار؛ فانهار الحاكم “القومي” أمام أحلام الشعوب التي تحولت إلى حقوق؛ وهنا، وجد المظلوم والمُطارد “الإسلامي” فرصته، ودون إعداد مسبق، قفز ليقدم نفسه “مهديًا مخلصًا”؛ لكن بطء الزمن في ستينيات وسبعينيات القرن الماضي، الذي سمح لـ “القومي” أن يؤسس عسكريته وأمنه المخابراتي، لم يعد متوافرًا مع بداية الألفية الثالثة، فـ “الإسلامية السياسية”، على الرغم من أنها قفزت على قطار التحرر، إلا أن الزمن السريع لا يستطيع احتمال عطالتها التاريخية، وأسطورة “إن شعوب هذه المنطقة ما زالت قابلة للانقياد، إذا كان صوت صاحب السلطة عاليًا، مليئًا بالتكبيرات والبسملات والصلاة والسلام على رسول العالمين” بدأت بالانهيار؛ لقد تعلّمت هذه الشعوب خلال الخمسين سنة الماضية، أن أسهل صنعة هي التغني بـ “بلاد العرب أوطاني”، ولن يخدعها التغني بـ “الإسلام هو الحل”. جاء الإخوان المسلمون بشعار مشابه لشعار القوميين العرب والأكراد، لكن دون قدرة على تحديد ما “المشكلة”، وما “الحل”، والأهم ما “الإسلام”، وما “القومية”، وما “الوطن- الدولة”.

 

عندما تنعدم القدرة على رؤية المشكلة في جوهرها، ستنعدم القدرة على اجتراح الحل الصحيح. لكن الكارثة الأكبر تبقى في توريط المقدس الديني، المقيم في قلوب الناس منذ آلاف السنين، في مشكلة مزيفة، واستخدام هذا المقدس في فبركة حل مزوّر، يمثل تعميقًا كبيرًا للمشكلة الحقيقية.

الوسوم

مقالات ذات صلة

إغلاق